يبدو أن الواقع بما به من سلبيات هو أكبر كثيراً مما ندخره فى عقولنا من احتياطيات فكرية وعصبية للتحمل والتعقل، ففجأة أصبح الساكن متحركاً، والهادئ غاضباً، والعامل معتصماً، والمنتج معترضاً، والحكيم مختلفاً على رأيه، والزعامة تتعدد وتتفرق، وكل رمز سياسى يجمع أنصاره ضد الآخر، أشعر أن الأهداف التى قامت من أجلها الثورة تحولت من أهداف ضرورية آنية إلى أهداف مرحلية صعبة التحقق على المدى القريب، وأن الوضع الحالى أدى إلى وجود مشكلات جانبية أصبحت هى الأولى تستنزف القدرات وتشغل الأذهان عن دورها الحقيقى.
لا مجال للأحلام الكبيرة إذا ما انشغل كل فريق بحلمه الخاص، فالأحلام الكبيرة والأعمال الكبيرة لا تأتى إلا بالعقول الكبيرة والقلوب الكبيرة التى تنحى جانباً المشكلات الفرعية والقضايا الهامشية وتهتم بالأعمال الجوهرية التى تمس حياة الناس واحتياجاتهم.
فأغلب ما يشغل معظم الفكر فى الساحة الآن يخص الشكل لا الجوهر، فمازال جوهر المشاكل التى قامت من أجلها الثورة تفتك بمن قاموا بها دون أن يقوم كل منا بدوره الحقيقى المكلف به، فاقتصادياً مازالت الرواتب على ما هى عليه من تفاوت بين المغالاة فى القمة وشدة الضعف فى القاع، ومازالت الأسعار على حالها الملتهب، ومازالت الطبقة المتوسطة فى أزمة حقيقية، ولمَ لا؟ وكل الأفكار متجهة الآن إلى شكل الدستور وشكل الدولة دون تغيير حقيقى فى القرارات المؤثرة على مضمون الدور الذى يخدم الناس.
إننا لن نصبح فى مصاف الدول المتقدمة إلا بخطوات تملك القدرة على التقدم بشكل فعلى لا شكلى، فكم قرأنا عن إحصائيات ومعايير عن تقدم فى شتى مناحى حياتنا دون أن نلمس ذلك على أرض الواقع، إن الواقع لن يتغير إلا بالعمل الحقيقى والإصلاح الحقيقى الذى يشمل كل أطياف المجتمع دون تمييز، وقرارات تمس كل أفراد المجتمع فيشعر الجميع بإصلاح الحال، وأن ثمة حلول بدأت تتحقق على أرض الواقع، بدون ذلك فلن تؤتى أى حلول ثمارها أو أى أفعال جدواها مهما حسنت النوايا؛ لأنها انشغلت بالمشكلات الفرعية، وتركت وظيفتها الأساسية لوقت غير محدد فى المستقبل البعيد، حينها ستستمر المشكلات الأساسية فى تفاقمها حتى تصل لمستوى لا تتحمله العقول ولا الأذهان، ولن تجدى الحلول الشكلية فى حل أى أزمة تفاجئنا فى المستقبل، وسنندم حينها على حلول عملية كان بإمكاننا تحقيقها لكننا آثرنا عليها الحلول الشكلية.
