آخر الكبار، رجلٌ مهما حاولت أن تبحث له عن "نظير" لا تجد، فهو وحده نظير لا نظير له، فعندما سمعت خبر رحيله وكأن شيئًا انشطر من قلبى وجزء انفصم عن روحى، واهتز كيانى وشعرت أن التاريخ هوى وانقطعت من فسيفسائه أفضل قطعاته وأدقَّها وأجملها وأبهاها، فأبينا قرن من الزمان إلاَّ قليل، فكان يربطنا بالتاريخ الوطنى القديم وزخمه.
كما كان يحمل فى سماته وبين جنباته عبق تاريخ المسيحيَّة فى مطلعها ومستهلَّها، فحقًا تراه كمن ترى أثناسيوس وكيرلس وشنودة رئيس المتوحدين، هو الذى لا تعرف كيف ومتى انجمعت فيه كل هذه الصفات والمناقب واتسقت فيه كل هذه الخبرات والتجارب، فهو يحمل التاريخ دراسة وحياة ويحمل الوطنية همّ وفهم ومشاركة.
كان متداخلا فى الكل، ومنفصل عنه إلى البيد والخلاء، كان يمثِّل جيل من أعظم الأجيال بعد القرن الخامس الميلادي، فقد حمل على عاتقه العلم والوطن والخدمة والحب والعطاء، صوته آثر لا مثيل له، تسمعه كالشجن، نبرته كالموسيقى العذبة، ضحكاته نغمات بريئة وطفولة غضَّة، شاعر بليغ، رقيق الشعور غزير المشاعر، باسم الوجه لا عابثه، رغم ضيقات الزمن وبلواه، ورحاه التى تدور وويلاته وثقل أمراضه، هو القلب النابض للرهبنة والكرازة ومحبة الغير، هو نموذج للإنسان حيث هو، وللبشرية كما هي، فى صفائها ونقائها، فى براءتها وفى انطلاقها ونشوتها، فى ربيعها وإشراق شمسها الحنون، كان يهفوا كالنسيم وكلماته كانت كالعبير الأخَّاذ.
هو رجل العمل فى وقت صار العالم كلامى محض، وهو المتكلم حين يصير العالم غليظ وفج يجرح بالكلمات، هو أعقل العقلاء وأحكم الحكماء، مباركٌ أنت يا أب الآباء، يا من أحضرت الوحدة والعزلة بين الحشود، وحملت الحشود فى وحدتك وعزلتك، كم كنت تملء الوجدان بتعاليمك والأزمان بحركتك ومحضرك وطلعتك، من سيعظ الأربعاء ومن سيعلِّم الثلاثاء! من سيصلى كل أيام الأسبوع، من سيملء الفراغ، من سيملء العقل والقلب والحس والوجدان والشعور، من سيقول الأشعار فتذوب النفس رقة وشعور، من سيضحك فتنزاح الهموم وتنقشع الغيوم وترفع الكروب، من سيشع السلام عندما تشتد الإحن وتزداد ركام المحن وتنغلق المضايق على النفس، من سيعلِّم وأنت كنت المعلِّم، من سينصح ويتأنَّى والكل إلى عجلة يهرول.
من سيلقى عظة الأعياد فى حكمتها وفى دقَّتها وفى رؤيتها، من غيرك يا أبي، أنت عبقرية جاد بها الدهر، وملمح من ملامح الزمن البديع، يا حكَّاء تستطيب الأذان لطف وطيابة حكيه، يا رقيقًا كلما قست الأيام، وعطَّاءً كلما ضنَّ الزمن، لقد تشرَّبناك وتنشَّقناك كالنسيم العليل، كنا نهفوا إليك، لكنَّنى أبكى الأيام التى لم نشبع منك فيها، وعلى المستقبل حيث حُرم الولدان من رؤياك وتعاليمك يا أب الأباء، من سنلتف حوله نرقب وجهه ونسمع همسه ونتلهَّف رؤيته والطمأنة عليه.
من سيسأل عنَّا عندما نشكو، من سيصلى عنا فى الكروب ودواهى الزمن، من سيربطنا بالحنين إلى الفردوس، من سيصلنا بعصر الآباء وسيرسم لنا أيقونة المسيح، نريد أن نحكى عنك ونحاكيك، نريد أن نتلمَّس الطريق وراءك إلى العشق وإلى الوجَد وإلى الحنين، نعم يا أب الآباء، أعدنا، أرددنا من سبينا ومن سباتنا، غفوتك صحوةٌ يا أبي، رعشةٌ جرت فى الأبدان والجنان، ذكَّرتنا بعشقنا الأقدم والأبقى، أن نلتف معك حول ذاك، ذاك الذى يشعل فينا نار الحياة فنحترق دون أن تفنينا ناره، مباركٌ أنت يا أب الآباء.
البابا شنودة
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
Michael Hanna
Sadly Missed
عدد الردود 0
بواسطة:
ماجد إميل
أجمل رثاء قرأته في حياتي كلها
عدد الردود 0
بواسطة:
اشرف رافت
اقل ما يقال لابويا
عدد الردود 0
بواسطة:
ايهاب محفوظ
حينئذ يضئ الابرار كالشمس في ملكوت ابيهم
عدد الردود 0
بواسطة:
maro
مصر .. غابت شمسك الذهب
مقالة جميلة جدا قالت كل اللى انا كنت عاوز اقوله
عدد الردود 0
بواسطة:
توتا القلب الحنون
مسلمه تحب الله
عدد الردود 0
بواسطة:
smsm
كلمات معزية
عدد الردود 0
بواسطة:
ابى وحبيبى قداسه البابا.. ابدا لن اقول ودااع و ستظل دائما فى قلوبنا وسنظل ننتظر يوم اللقاء
جوه قلوبنا يابابا شنوده
عدد الردود 0
بواسطة:
جورج ثابت
اقل ما يوصف به نقطة فى بحر
الاحساس بالشئ بعد فقدانه
عدد الردود 0
بواسطة:
مينا جورج
ابى وحبيبى قداسه البابا شنوده لن انساك مادمت حيا..انا برحيلك اتيتمت.. مع السلامه يابويا