أريد أن أذكرك بشىء لابد من أنه مر عليك مرات خلال السنوات الماضية.. فقد كانت هناك أحداث وأحاديث تطرح سؤالا: لماذا لا يكون هناك أكثر من مرشح للرئاسة.. وكان الجميع من حزب الكنبة، ورغم ذلك كانت هناك تساؤلات رقيقة أحيانا وملحة أحيانا أخرى: ألا يمكن اقتراح مرشح ثان؟ وكان أصدقاؤنا «إياهم» محترفين فى الإجابة عن هذه الأسئلة، يعتدل أحدهم ويضع ابتسامة مزيفة على وجهه ويسألك: ومن يصلح فى رأيك للترشح للرئاسة؟
وأنت لابد من أن تكون واحدا من فئتين، الأولى الناس الطيبون.. تتذكر اسمين أو ثلاثة، وتجيب عن السؤال.. ويبتسم «أحدهم» بسخرية: ماذا حدث لك يا فلان.. كيف اخترت هذه الأسماء.. للأسف يا صديقى لقد اخترت أسوأ الأشخاص، الاسم الأول معروف أنه عميل أمريكى.. وبصراحة سمعت أنه أيضا عميل إسرائيلى، لكننى لست متأكدا، الاسم الثانى ليس عميلا لكن ملفه فى الآداب يحتل ركنا بكامله، الاسم الثالث شخص طيب، وأنا شخصيا أحبه كثيرا ولكن هل تقبل أن يكون رئيسك ساقط إعدادية؟!
وإذا كنت من الفئة الثانية أى من الماكرين فلن تحدد أسماء، وفى الحالتين الأولى والثانية هو شخص واحد فقط يصلح للرئاسة، هذا الشخص سألوه فى بلد أوروبى - فهناك يسألون بجرأة - لماذا ليس له نائب؟ فقال إنه يبحث منذ سنوات عمن يصلح لأن يكون نائباً لفخامته ولم يجد، ومازال يبحث فإذا وجده فسيعينه، وتدق المزاهر وتعلو الموسيقى وتقام الأفراح أربعين ليلة.
الغالبية يخرجون من هذا بأننا فى نعمة علينا أن نتحدث بها، فلقد حصلنا على رئيس، وكان من الممكن ألا نحصل عليه.. لأننا لا نستطيع أن نحصل على نائب.
ولكن هناك أقلية قد يذكرها هذا بنظرية «الدماء الزرقاء» التى تجرى فى عروق العائلات الملكية، وأحيانا فى عروق بعض العائلات الجمهورية.
وبالطبع الشك فى زرقة دماء العائلات الجمهورية كبير، ولكن الثقة فى زرقة الدماء الملكية مصدقة بشكل هائل لأننا لم نر الدماء الملكية حتى عندما قتلوا لويس السادس عشر ومارى أنطوانت، أو عندما قتلوا قيصر روسيا وعائلته.
وسط نحو ثلاثمائة مرشح للرئاسة اهتم أصدقائى الأشرار بالمرشح «أبوشبشب» وراكب «الموتوسيكل» والذى قال إن الرسول عليه الصلاة والسلام وضع يده على كتفه وأوحى له بالترشح، ولكن أكثر الاهتمام بابن الملك فاروق، وإن لم يحدد هل هو ابن الملكة فريدة التى أنجبت ثلاث بنات، وغالبا لو كانت أنجبت ولداً فما كان طلقها الملك، وبالتالى فمن المستحيل أن يكون ابن فريدة ونريمان هى أم الذكر الوحيد الذى أنجبه فاروق وهو أحمد فؤاد الثانى الذى أخذه فاروق إلى المنفى، حيث انتهت علاقته بناريمان التى عادت وطلقت وتزوجت.
يكون إذن ابن فاروق هو ابن امرأة ثالثة لا نعرفها، ولم يقل أحد فى الآلاف الذين كتبوا وتكلموا عن فاروق إنه تزوج سرا أو علنا غير ما أشرنا إليه، ويكون الاحتمال الوحيد - إذا أخذنا الموضوع جدا - أن المرشح ابن علاقة غير شرعية، وهذا ما نستبعده، فلو كان كذلك ما تقدم للترشح مطالبا بعرش أبيه وأجداده، لأن وضعه سيكون سيئا فى الدعاية الانتخابية.
التفسير الوحيد هو الجهل بالتاريخ، فربما تعامل المرشح مع الملك فاروق كما يتعامل الناس مع السلطان قلاوون، أى أنه أكيد عنده أولاد كثيرون، ولكثرة عددهم لا يعرف أحد أسماءهم.
وقيل إن الرئيس المحتمل المرشح حمل معه علم الملكية الذى هو العلم الأخضر بهلاله ونجومه، الذى يحن إليه البعض ظنا منهم أنه علم مصر، وفى الحقيقة أنه علم الدولة العثمانية الذى رفعه محمد على، ولأنه كان يميل إلى الاستقلال أضاف إليه لمسة، وكذلك حفيده إسماعيل، ومع الاستقلال 1923 أضاف إليه فؤاد لمسة، لكنه ظل متشابها مع كل البلاد التى حكمتها الدولة العثمانية وما زال العلم العثمانى هو الأساس فى التكوين مثل تونس.
والجهل بالتاريخ أصبح ظاهرة مخيفة، حتى أن أحد الكتاب اتهم عبدالناصر أنه سمم محمد نجيب!! فى حين أن نجيب توفى بعد السادات.
وعندما كان سعد زغلول فى فرنسا أيام الثورة بحثا عن استقلال مصر، انضم إلى الوفد هناك شاب كان يدرس فى السوربون هو محمد صبرى الذى اشتهر فيما بعد بمحمد صبرى السوربونى.. وفى مناقشة مع الزعيم قال له: إذا كنت تريد الاستقلال فعليك بكتابة التاريخ! وقبل سعد زغلول الفكرة لكنه قال مازحا: ما تكتبه أنت يا فالح!
والجهل بالتاريخ يذكرنى بقصة على مقربة من أحد المرشحين المحتملين للرئاسة، فقد كنت ذات يوم فى مأزق لأنه لم يتيسر لى أن أتقدم بواجب العزاء فى زوج كاتبة كبيرة عزيز علىّ وعلى كل من يعرفها، فذهبت مع سيدتين إلى بيتها فى ذكرى الأربعين، وفوجئت بعدد كبير من الناس زحموا البيت، وكان هناك من وزعنا على الغرف فكان من نصيبى مقعد فى غرفة صغيرة مع وزير للتعليم يقول بعض أصدقائى إنه أفضل وزراء التعليم، ويقول بعضهم الآخر إنه من بدأ عصر الانهيار فى التعليم، وكان ثالثا السيد منصور حسن الذى كان وزير أيام السادات، واستبعد بطريقة أضافت إليه كثيرا من المحبة والتقدير.
وفى مثل هذه الحالات يصيبنى اكتئاب شديد وأميل إلى الصمت، ويبدو على الارتباك لأننى لا أعرف التعامل مع طقوس الموت، ويقودنى الحال إلى التأمل فى الحياة والموت، وربما لهذا السبب لم أتواصل مع السيد منصور حسن الذى عرفته من قبل فى جلسات طويلة فى بيت الراحل سعد الدين وهبة.
وبعد لحظات تكلما كثيرا، وبدأ الوزير يشكو من أنه لم يعد يعرف ما يريده الناس، يخفض نسبة النجاح فى بعض المواد أو يجعلها مجرد نشاط لا يجعل الطالب يعيد السنة، وفوجئ بأن البعض يهاجمونه، وكان غيرهم من قبل يهاجمونه لأنه لا يتساهل فى هذه العلوم، وأذكر أنه ذكر اللغة العربية والتاريخ وقال فى نهاية شكواه: ماذا أفعل؟ عندما سأل هذا السؤال كان قد التفت لسبب ما تجاهى، ويبدو أنه بدا على وجهى الإحساس بالحرج فى الإجابة عن السؤال، مما شجع منصور حسن على الصمت ولا أظنه كان يريد الإجابة، وتعقد الموقف بحيث إنه كان على - أو هكذا تصورت - أن أجيب عن السؤال، وتورطات مثل هذه يقع فيها أمثالنا أحيانا.
قلت له: يا سيادة الوزير قبل أن أقول شيئا اسأل عن مكونات القومية عند أى شعب، أولا: أرض واحدة ثانيا: تراث واحد ثالثا: لغة مشتركة، هل تختلف مع هذا؟! والتراث هو التاريخ، وسيادتك تتكلم عن اللغة والتاريخ، فكيف نفرط فى عنصرين أساسيين من عناصر القومية، وهذا ليس كلاما إنشائيا فهناك مليون دليل عليه.. مثلا يوم هزيمة فرنسا أمام ألمانيا النازية وتسليم المارشال بيتان بعدها بدأت الدراسة فى المدارس والجامعات والمعاهد فكان الدرس الأول هو اللغة الفرنسية، ومنذ هذا الدرس بدأت المقاومة وأذكر للتاريخ وليس للدعاية الانتخابية أن السيد منصور حسن آزرنى فيما قلت.
وأعود إلى صاحب السمو المرشح المحتمل للرئاسة ولا أعرف هل يجهل اللغة العربية أم لا، فحفيدة أحمد شوقى تجهل العربية، لكنه بالتأكيد يجهل التاريخ.
ومثله بعض أصدقائى الذين تحمسوا للمرشح الملكى، وأخذوا يزينون لى العصر الملكى: يا أخى ألم تر تلك القصور العظيمة فى عابدين ورأس التين وقصر القبة إلى غيرها فى كل مكان؟ أرأيت ما نعمل بها؟! البرابرة حولوا بعضها إلى مدارس وجامعات، ثم هذه الوجوه الجميلة السمحة وهذه الثياب الغالية الأنيقة التى تأتى مباشرة من باريس وفينيا، والطربوش أرأيت غطاء رأس أفضل منه؟ والشوارع كانت خالية من المارة، وليس فيها إلا عدد قليل فى الأتومبيلات.. والسلام الملكى لڤردى.
قال صديق لى: القصور التى ذكرتموها لم يكن يدخلها واحد من الشعب أمثالنا إلا للعمل طباخاً أو سائقاً أو خادماً، والملابس الأنيقة كانت من فلوس الناس، والفلاح المصرى فى الغالب لم يكن يملك أكثر من جلباب واحد، والشوارع كانت خالية لأن عدد السكان - عند رحيل جلالته - كان عشرين مليونا، ماذا تفعل فى الخمسة وستين مليونا؟! على أى حال لم يكن يستطيع أمثالنا السير فى شوارع الزمالك وجاردن سيتى.
صديقى أسوأ من السابق وضع برنامجا يقترحه على البرنس، هو أن يكون أول بند فيه إعادة نظام الحفاء، فلقد كان ثلاثة أرباع الناس يمشون حفاة، ويرى أنه أصح لنا.
مرحبا يا صاحب السمو!
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
عبد الحق صالح
صدقت