تنص المادة 28 من الإعلان الدستورى على أن «تتولى لجنة قضائية عليا تسمى لجنة الانتخابات الرئاسية الإشراف على انتخابات رئيس الجمهورية، بدءًا من الإعلان عن فتح باب الترشح وحتى إعلان نتيجة الانتخاب.. وتكون قرارات اللجنة نهائية ونافذة بذاتها، غير قابلة للطعن عليها بأى طريق وأمام أى جهة، كما لا يجوز التعرض لقراراتها بوقف التنفيذ أو الإلغاء..».
ولا اعتراض على منطوق الشطر الأول من المادة، ولكن الشطر الثانى بداية من: "وتكون قرارات اللجنة نهائية.. إلخ)، يحمل العديد من علامات الاستفهام، فقد قدَّس نص هذه المادة قرارات اللجنة، وجعلتها أشبه بنصوص إلهية لا تقبل المساس بها من قريب أو بعيد.
ولأننا مسلمون، ونعيش فى دولة دينها الرسمى هو الإسلام، فنحن لا نعرف نصًا مقدسًا سوى القرآن الكريم؛ لأنه كتاب جاء من عند الله تعالى، ولا نعرف حكمًا لا يُرد ولا يُراجع إلا الأحكام الإلهية، يقول تعالى فى محكم التنزيل: "لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ" (الأنبياء: 23)، ومعنى الآية كما يقول الزمخشرى فى تفسيره: "إذا كانت عادة الملوك والجبابرة أن لا يسألهم من فى مملكتهم عن أفعالهم وعما يوردون ويصدرون من تدبير ملكهم، تهيبًا وإجلالًا، مع جواز الخطأ والزلل وأنواع الفساد عليهم - كان ملك الملوك وربّ الأرباب خالقهم ورازقهم أولى بأن لا يسأل عن أفعاله، مع ما علم واستقرّ فى العقول من أن ما يفعله كله مفعول بدواعى الحكمة، ولا يجوز عليه الخطأ ولا فعل القبائح { وَهُمْ يُسْئَلُونَ } أى هم مملوكون مستعبدون خطاؤون.
ويقول تعالى: "وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ" جاء فى تفسير ابن كثير: "أى: هو الحاكم الذى لا معقب لحكمه، ولا يعترض عليه أحد، لعظمته وجلاله وكبريائه، وعلوه وحكمته وعدله ولطفه".
وعند الطبرى: "والله هو الذى يحكم فيَنْفُذُ حكمُه، ويَقْضى فيَمْضِى قضاؤه.. فلا رادّ لحكمه".
وعند الرازى فى التفسير الكبير: "كأنه قيل: والله يحكم نافذًا حكمه خاليًا عن المدافع والمعارض والمنازع".
ولو رجعنا إلى الشطر الثانى من المادة (28) التى تقول: "وتكون قرارات اللجنة نهائية ونافذة بذاتها، غير قابلة للطعن عليها بأى طريق وأمام أى جهة، كما لا يجوز التعرض لقراراتها بوقف التنفيذ أو الإلغاء"، لأدركنا مدى الخطأ الشرعى بل والعقدى فى صياغة هذه المادة، وإذا كانت المادة الثانية من الدستور تجعل الشريعة الإسلامية هى المرجع الرئيس للتشريع، فإن منطوق هذه المادة يعتبر مخالفًا للمادة الثانية من الدستور، لأنها نصبت نفسها إلهًا لا يرد حكمه ولا يراجع أمره، ومن ثم فهى باطلة شرعًا ودستوريًا، ومخالفة لنصوص جميع دساتير العالم وقواعده الديمقراطية التى تمنح حق التقاضى لجميع الموطنين، كما أنها جعلت جميع قراراتها محصنة ضد الطعن، وهو ما يناقض مبدأ الحق فى التقاضى، وهو مبدأ دستورى أصيل.
إن البشر أيًا ما كانوا، ومهما بلغت قدراتهم العقلية والعلمية والمعرفية فلا يمكن أبدًا أن ترقى أو تقترب من قدرة الله تعالى، ومن ادًّعى أن قراراته أو المواد القانونية التى يصيغها لا معقب لها، ولا معدل عليها، ولا يُنتقص منها، أو يزيد فيها، فقد نصّب نفسه كمشرع منزه عن الخطأ والنسيان، يحكم للناس وعليهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا، وليس ذلك إلا لله تعالى.
الغريب أن نص المادة (28) يتشابه إلى حد بعيد مع نص المادة (76) من الدستور السابق والخاصة أيضًا بانتخابات رئيس الجمهورية، والتى تم تفصيلها للرئيس المخلوع وابنه من بعده، والتى تنص على: "أن تكون قراراتها نهائية ونافذة لذاتها وغير قابلة للطعن عليها بأى طريقة، وأمام أى جهة كما لا يجوز التعرض لقراراتها بالتأويل أو بوقف التنفيذ".
إن هذه الصياغة تجعلنا أمام افتراض بسوء النية من المجلس العسكرى فى أن شيئًا ما خفيًا ومريبًا يتم الإعداد له فى سرية تامة سيتم خلال الانتخابات الرئاسية القادمة.
والغريب أن هذه المادة لم تكن موجودة بالنسبة للجنة القضائية الانتخابية العليا التى أشرفت على انتخابات مجلس الشعب، فكانت كافة الطعون التى تقدم للمحاكم المختصة يتم الحكم فيها سواء بالقبول أو الرفض، ومن ثم تمت إعادة الانتخابات فى العديد من الدوائر التى تقدمت بطعون، فلماذا لا يتم ذلك فى الانتخابات الرئاسية؟ وما الفرق؟
هل يريد المجلس العسكرى أن يُدخل المجتمع المصرى فى حالة من الجدال والشقاق قبل الانتخابات حول هذه المادة "المشبوهة"، أم أنه يريد "تظبيط" الانتخابات القادمة لمرشح بعينه؟! وحينها لا يحق لأحد - بنص المادة 28 - أن يطعن على هذه اللجنة بأى طريق وأمام أى جهة، كما لا يجوز الاعترض أحد لقراراتها بوقف التنفيذ أو الإلغاء!!
أنا لا أتهم ولكنى أتساءل، وأتمنى من السادة أعضاء المجلس العسكرى أن يخرجوا علينا بتوضيح وبيان، خاصة بعدما حدث هنا – وأنا فى إحدى البلاد العربية – فعندما ذهب أحد أصدقائى ليدلى بصوته فى القنصلية المصرية، وأراد أن يحصل على إيصال بتسليم أوراقه قال له الموظف المختص وبالحرف الواحد "لا تخف من شىء، ليس هناك تزوير فى هذه الانتخابات وليست هناك نية لذلك، ولكن اللعب كله سيكون فى انتخابات الرئاسة"!! إى والله قال له ذلك.
ألا تثير مثل هذه العبارة التى صدرت من موظف فى إحدى سفارات مصر التابعة للخارجية المصرية العديد من التساؤلات والمخاوف؟ وتجعلنا نصر على تعديل هذه المادة، كما تجعلنا أكثر إصرارًا على أن يكون هناك مندوبون لمرشحى الرئاسة يراقبون الانتخابات لحظة بلحظة وورقة بورقة وصوتًا بصوت.. أرجو أن يتحرك المعنيون بالأمر قبل فوات الأوان.
