أرى الجدل حول لجنة المائة عقيما، لأنه يتجاهل حقيقة أن هذا هو دستور ثورة صنعها شعب بأسره وهو ما يفرض أن يأتى الدستور بمشاركة فعلية من الجميع ليضع حدا لفساد واستبداد عهد مبارك ورموزه وليؤسس لدستور جمهورية جديدة يستلهم روح الثورة ويترجم قيمها ويعكس مطالبها، ولهذا فإن السؤال المطروح حول نسب المشاركة من داخل البرلمان وخارجه وكيفية تمثيلها للقوى السياسية سؤال مضلل لا يعكس رؤية، لأنه يحصر المشكلة فى بنية الجمعية التأسيسية وكأنها تحتكر الحق فى وضع الدستور، فى حين أن مهمتها لا يجب أن تتخطى الصياغة الفنية أو الإخراج النهائى للقاسم المشترك لأوجه الاتفاق بين التوجهات المختلفة، بعبارة أدق مهمة الجمعية تنحصر فى التعبير عن إرادة الأمة لا أكثر ولا أقل، وإن هى حادت عن ذلك وجب على الأمة أن تنتصر لإرادتها ولا يزال الميدان موجودا.
مشاركة الرأى العام فى وضع الدستور، تستند إلى فلسفة المساواة السياسية والحق فى صنع المستقبل كمبدأ رئيسى للنظام الديمقراطى فيما يعكس الصراع الحالى نظرة فنية حرفية للدستور، ولأن كل المصريين وإن بدرجات مختلفة صنعوا الثورة ولأنهم يتأثرون بنفس الدرجة بما يقره الدستور من مبادئ ونظم وقيم وما ينتج عنه من سلطات ومسئوليات، ولأن الدستور فى ذاته تعبير عن هوية ورؤية للحقوق والواجبات ونموذج لصنع القرار السياسى فى أعلى مستوياته وجب تمكين المصريين جميعا لوضع دستورهم لا مجرد التصديق عليه، ولأهمية هذا المنحى فى وضع الدساتير أشارت المادة 25 من الاتفاقية الدولية للحقوق المدنية والسياسية الصادرة عن الأمم المتحدة عام 1966 إلى هذا الحق، وأعادت لجنة حقوق الإنسان فى جلستها المنعقدة فى 12 يوليو 1996 التأكيد عليه.
النظر إلى نتيجة الاستفتاء بنعم أو لا باعتبارها المظهر الأهم لمشاركة للرأى العام فى وضع الدستور، منهج يفتقر إلى النزاهة لأن المواطن يعبر عن رأيه جملة لا تفصيلا ما يجعل نسبة الموافقين على الدستور تتضمن جزءا ممن يرفضون بعض المواد، كما تشير نسبة المعارضين فى جانب منها إلى من يوافقون على بعض المواد، وفى ذلك انتهاك صريح ومقنن لشرعية الدستور مهما كانت أحكام المحكمة الدستورية العليا فى هذا الشأن، فالاستفتاء الشعبى ليس إلا إجراءً شكليا مهينا ومتعمدا لإضفاء الشرعية على الدستور بأسلوب غير شرعى، ولا أعتقد أن ثمة حل لهذه المعضلة فى الأمد القريب، ولهذا فإن المشاركة الفعلية للرأى العام لابد أن تسبق صناعة الدستور لا أن تلحق به، وهى نوع المشاركة التى تجعل الجدل حول لجنة المائة لا قيمة له، فالمنتج النهائى أى الدستور لا يجب أن يختلف باختلاف تركيبة اللجنة طالما وضعت القواعد التى تلزم هذه أو تلك باحترام إرادة جموع الشعب فسواء جاءت اللجنة كلها أو بعضها من داخل البرلمان أو من خارجه لا يجب أن يختلف الدستور فى مقاصده الكبرى وفلسفته ومضمونه، وهذا هو منطق العلم وفحوى الديمقراطية التى تحتم على اللجنة دورا محددا لا يربو عن سباكة أو صياغة الأفكار الكلية والاتجاهات الجوهرية لما يرتضيه الشعب، وهى فى ظنى مهمة ثانوية، فالتحدى الذى يواجه وضع الدستور يكمن فى الآليات التى تمكن جماهير الرأى العام من التعبير عن خياراتها إزاء القضايا الخلافية بما يسمح بترتيب الأولويات ورسم معالم المضمون والدائرة الأوسع التى تتحرك لجنة المائة داخلها.
الدستور وفقا لهذا المفهوم الجديد يقوم على المرونة والانفتاح على الجميع ويؤسس على الحوار المتوازن بين كل الأطياف السياسية ويستوعب صوت من لا صوت لهم، وهو ما يتطلب أعلى درجة من حرية التعبير والتمكين لإتاحة الفرصة لتبادل الآراء، ويبدو لى أن خبرة وضع الدساتير فى مصر منذ ثورة 19 هى التى تثير التخوفات من غلبة التيار الإسلامى فى الجمعية التأسيسية، فقد جاء دستور 1923 وما تلاه من دساتير العهد الليبرالى ليضع حدا للتوجهات الاشتراكية ويجرمها، بل ويضع قيودا على مشاركة الفقراء والمعدمين فى الانتخابات وفى الترشح للبرلمان، فيما جاءت دساتير ما بعد ثورة 1952 لتفسح المجال للاشتراكية نظاما اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا ولتمكن الفقراء والمعدمين ولتمحوا أثر ما أسمتهم الرجعيين، وهكذا كانت الثورة فى بداية القرن وفى منتصفه تعبيرا عن توجه اجتماعى سياسى وجاء الدستور ليقنن هذا التوجه من منظور سياسى ضيق الأفق سرعان ما دفع إلى الانهيار، فكل نظام سياسى لا يحترم إرادة المجموع يحمل فى طياته دون أن يعى القائمون عليه بذور انهياره، وهذا ما أتصور أن التيار الإسلامى يستوعبه لا لأنه فقط يخشى الثورة ضده إن آجلا أو عاجلا، ولكن لأن ديمقراطية الإسلام تقوم على العدالة والمساواة والحرية والشورى والانفتاح والمرونة وتأبى الانغلاق والجمود والإكراه والهيمنة والتسلط والجمود.
الدستور الديمقراطى يمنح الطريقة التى يوضع بها درجة من الأهمية تفوق مضمون الدستور نفسه، فالعبرة ليست فى المنتج النهائى بل فى المنهج الذى جاء به فهو الذى يمنحه الشرعية والرضا والاستقرار بل ويضمن له الاحترام وهذا ما جعل الدستور الأمريكى والذى وضع فى 1887 لا يتعرض لأكثر من 28 تعديلا خلال فترة تقترب من 250 سنة فيما تعرض الدستور الألمانى وعمره لا يزيد عن 60 سنة لأكثر من مائتى تعديل، وعليه أقترح التفكير فى نظام لقياس وتحليل اتجاهات الرأى العام فى داخل وخارج مصر إزاء القضايا الخلافية وأهمها موقع الشريعة الإسلامية فى الدستور ونظام الحكم، ولامركزية الإدارة، ووضع الجيش فى الدستور الجديد، واستقلال القضاء ومستقبل التعليم والبحث العلمى، والنظام الانتخابى، ومستقبل الصحافة والإعلام والحريات العامة وتداول السلطة وسلطات الرئيس، وشكل النظام الاقتصادى على أن تعرض كل قضية على الفئات المعنية بها مع إجراء دراسات علمية على عينات قومية للوقوف على رأى الجميع، والأهم من ذلك أن تعرض مسودات الأبواب الخاصة بالدستور على الرأى العام على الهواء مباشرة مع طرح المسودة النهائية لحوار مجتمعى حقيقى قبل الاستفتاء الشعبى وهكذا إلى أن يقتنع الجميع أن الشعب صانع الثورة هو صانع دستورها.
* أستاذ بكلية الإعلام جامعة القاهرة .
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
اسلامى وافتخر
موقع الشريعة الاسلامية
عدد الردود 0
بواسطة:
مواطن
الايهما بوجود ثورة هو المشكلة