مر بين يدى فيما يمر من كتب المعرفة، كتاب (فضائل مصر) للكندى أو ابن الكندى حسب ما اختلف على تسميته، تمتعت نفسى بما ذكر من مكانة مصر وفضلها وتاريخها، وكثير مما ذكر أعرفه، وكثير تعلمته ولم أكن أعرفه، استوقفتنى منه جمل أهمتنى وأحزنتنى، لأنها وضعتنى بين ماض تليد وبين حاضرٍ مؤلم أسيف، انظر أخى ماذا قرأت حتى تعيش معى لحظة أسفى ودهشتى، وحتى ترى كيف نكّل الحاضر بمصر وجردها من دثار الماضى الجميل؟
يقول الكندى نقلا عن أبى العلاء المصرى:"وأجمع أهل المعرفة على أن أهل الدنيا مضطرون إلى مصر يسافرون إليها، ويطلبون الرزق بها، وأهلها لا يطلبون الرزق من غيرها، ولا يسافرون إلى بلد سواها، وحتى لو ضرب بينها وبين بلاد الدنيا، لغنى أهلها بما فيها عن سائر بلاد الدنيا".
لا أعرف كيف يكون التعامل مع هذه السطور التى لو قرأها الكثيرون لكان ضحكهم ممزوجاً ببكائهم..وغالب الظن أن لا نلتفت إليها فى شىء، وأن نعدها من قبيل الأساطير التى لا نصدقها، ونعدها خيالا فى خيال.
الواقع المرير، والحالة المزرية التى تعيشها مصر، جعلت من حقائق التاريخ أوهاما وعجائب، ولكن سطور الكندى يصدقها القرآن حينما وصف مصر بحكايته عن فرعون وجنده، قال تعالى :"كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آَخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29)" الدخان، هكذا وصفها الله جل شأنه: "نعمة وجنات وعيون..وزروع ومقام كريم".
إن مبارك ونظامه اللصوصى الأثيم، باعوا مصر ونهبوا ثرواتها، واستنزفوا مقدراتها، وعطلوا مواردها، وأحالوا غناها فقراً، ونعيمها جحيماً، وتركوها خراباً بواراً ..أما شعبها المسكين فلم يرحموه حينما جعلوه مفلساً جائعاً ضائعاً يتسول طعامه وزاده، ويستجدى الشعوب أن تعطف عليه بالمعونة والقوت، وكان المخطط الشيطانى لإذلال مصر، حيث تعطل مواردها، وتهدر إمكاناتها، ليكون البديل عنها معونة ملعونة جلبت الخزى والذل والكوارث والنكبات، وكبلت الإرادة، وكممت الأفواه، وقضت على الدور الريادى لمصر فى المنطقة، كل ذلك.. للرضا عن مشروع التوريث وقبوله وتمريره ..وهكذا ذبحوا مصر، ودمروا بنيتها، وهدموا إنسانها الذى يقيم أوده برغيف الخبز، الذى جاءه من خير المعونة، لا من خير بلاده، وصار كما يقول قائل : "يتطلع يومياً إلى آفاق البحار العريضة ينتظر سفينة من وراء المحيطات تأتيه به لكى يسد بالكاد رمقه أياماً معدودة.."
آهٍ يا شباب مصر.. شبابها الطاهر الأبى لفظته أحضانها ولم تسعه بذراعيها، ففر من فقرها وجحيمها وآلامها وبلائها وعوزها ونكدها إلى الآفاق الرحبة يطلب الرزق هنا وهناك، وكل آماله أن لا يعود إليها حتى لا تحرقه بشقائها الذى أغرقها فيه لصوص مجرمون، وخونة عملاء.
إن الحديث عما صنعه النظام الأثيم فى إهدار ثروات مصر، يطول ويطول، ويكفيك علماً بأنها لو وقعت تحت نير الاحتلال، فإنها لم تكن لتلقى منه ما لقيت من مبارك وعصابته، التى نهبت البلاد بوحشية وعنف.
ما أبعد البون بين حديث (الكندى) وحديث (الجنزوري) الذى وقف ليعرض حالة مصر واقتصادها المنهار، وأنها لم تجد نصيراً من قريب أو بعيد، حتى أبكاناً وأحزننا وتفجرت قلوبنا أسى وألما على ما صرنا إليه، حتى الأشقاء الذين بذلت لهم مصر فيما مضى من عزها ودعمها وشبابها ودمائها، خذلوها وتنكروا لها وجلسوا سعداء منتشين، ينتظرون اللحظة التى تركع فيها.
د.كمال الجنزورى
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
محمد صادق
لن تركع ابدا
عدد الردود 0
بواسطة:
Mahmoud Bahnasy
الله ينور يااستاذنا
عدد الردود 0
بواسطة:
mohamed taha
الله ينور على يا استاذ حاتم
عدد الردود 0
بواسطة:
Abd Elghafar Salama
بارك الله فيك استاذ حاتم
مقال رائع ومميز كالعادة .....
عدد الردود 0
بواسطة:
Abd Elghafar Salama
ان شاء الله ترجع مصر زى زمان
عدد الردود 0
بواسطة:
somaia
رائعة
عدد الردود 0
بواسطة:
mohammed
تفائل
عدد الردود 0
بواسطة:
عبدالسميع ابو العلا
لانهم فى رباط الى يوم القيامه
عدد الردود 0
بواسطة:
د. عصام أبو زيد
لا فُضَّ فوك