ما يعجنى فى شعبنا الجميل هو قدرته غير عادية على تبنى المصطلحات وترديدها ونشرها، ومن ثم الإيمان بها وأخيرًا نسيان مطلقها أو الهدف من إطلاق هذه المصطلحات!
نرى ذلك جليا فى ترديد كلمات مثل حزب الكنبة.. الفلول.. المادة الثانية من الدستور.. حكومة الإنقاذ.. الرئيس التوافقى.. وغيره الكثير والكثير!
وأقف هنا اليوم على جملة (نحن شعب متدين بطبعه).. تسمعها فى الشوارع والميادين والمقاهى.. تسمعها فى البيوت وفى العمل وفى محطات البنزين وفى كل مكان!
وأعود وأسأل؟! ما شكل هذا التدين؟ ماهى مظاهره؟ ما هى سماته؟ كيف نشأ؟.. وأظل أسأل ولا يجيبنى كائنا من كان! بل يرمقنى أحد المواطنين بازدراء ويقول (يعنى أيه يعنى! أنت بتشكك!! بقولك أحنا شعب متدين بطبعه).. وألمح فى نظراته أننى إن لم أردد الجملة وأؤمن بها بلا جدال فلربما أصبحت من الخوارج!
نردد دون أدنى استعداد للفهم أو النقاش أو التحليل ونعطى مصطلحاتنا القدسية حتى يصبح من ينوى التلاعب بها هو إنسان ضال ومارق وخارج عن القطيع!
ثم أذهب إلى عملى فى الصباح الباكر فأجد من يكيد لزملائه ويوقع بهم.. ومن يتملق من هو أعلى منه ليصل إلى ما ليس له بحق! وأشاهد بأم عينى من يزور ومن يرتشى ومن يغتاب.. أرى من يدمر مستقبل عشرات حتى يصل غير عابئ بأى شىء إلا نفسه وكفى! ثم يحين موعد الصلاة.. فمصل فى موعدها ومؤخر لها وتاركها.. ثم يعود بعد الصلاة ليمارس حياته دون أدنى تأثير من الركعات والسجدات على تصرفاته.. ثم إذا انتقدت أحدًا تسمع (نحن شعب متدين بطبعه)!
وأقود سيارتى فى شوارع العاصمة وأرى التشاحن والسباب والتضييق على الضعيف والفوضى واللا قانون واللا رحمة.. ثم إذا انتقدت شيئًا من هذا سمعت (يا أخى نحن شعب متدين بطبعه)
وأتعامل فى البيع والشراء والمصالح الحكومية والبنوك والشركات وأرى ما يندى له الجبين!.. وأطالع حال الفقراء والمعدمين والمهمشين والمساكين ومن لا يجد قوت يومه.. ثم نعود ونقول التدين هو طبعنا!
ولست أقصد هنا كل الشعب ولكننى أكاد أدعى أنهم نسبة كبيرة!
ونحن لأننا (متدينون بطبعنا) فلا نقرأ ولا نبحث ولا نعى ومن ثم لا نفهم!.. يركن كثيرون منا إلى بعض المشايخ ليصدروا لهم فتاوى هنا وهناك فى كل أمور حياتهم.. فيأخذونها منهم على سبيل المسلمات دون أدنى استعداد لبحثها والتدقيق فيها والقراءة فى فحواها من كتب الشريعة والفقه المقارن والقرآن والسنة.. وهى موجودة وميسرة للحصول عليها ولكننا أمة لا تقرأ!
فإذا قرأ أى منا واكتشف خطأ فتوى أو وجود آراء فقهية أخرى فيها وصرح بذلك فلسوف يهاجم من جموع المواطنين الذين أضفوا القدسية على شيوخهم ويصبح مارقًا عن الدين وزنديقاً وفاسقًا ويسمع الجملة الشهيرة (اتق الله يا أخى نحن شعب متدين بطبعه)! وكأن الدعوة إلى البحث والقراءة والتدقيق هى شىء ينافى عقائدنا.. نحن أمة (اقرأ)!
ويقول قائل إن أكثر من نصف الشعب جاهل وأمى فكيف تطلب منه أن يقرأ ويبحث؟ وأن وسيلته الوحيدة هى التلقى من شيوخ ثقات.. ولكننا ننسى ونتناسى أن الوقت الذى نضيعه فى تخوين بعضنا البعض وتسفيه رأى المختلفين فكريًا والجدال من أجل الجدال لهو وقت أكثر من كاف ليعلم كل منا مواطن أمى واحد فتزداد الدنيا حينها نورًا!
إننا نعيش حالة من الفصام أو الانفصال الفعلى بين ما نردده كل يوم وبين ما نؤمن به حقا ونعتقده ونؤديه.. فالدين الذى هو طبعنا يهذب كل ذلك ويربى النفس البشرية على معانى العفة والإخاء والكرامة.. ولو أن هذا الدين قد وقر فى قلونا لتغير حالنا كله ولأشرقت حياتنا ولرأيناه فى عاداتنا ومعاملاتنا قبل عباداتنا.
ذلك الدين الذى يحث على العلم والقراءة وتقبل الآخر ونبذ الخلاف والتناحر والنصيحة بالحسنى.. الدين وكل دين سماوى هو من يأمر بأحكام العقل وبنشر الأخلاق والفضائل حتى وكأن (المتدين بطبعه) هو دين يمشى على رجلين.
هذا هو التدين الذى أعرفه وأؤمن به.. ليس شكلا أو مظهرًا أو بضع كلمات تردد بلا فهم لنثبت أننا متدينون.. بل هى أخلاق وتربية للنشء منذ نعومة أظفاره لتلقى القيم التى تهذب النفس وتشحذ الهمم.
فلنقرأ أيها المواطنون ولنساعد الغير على الفهم والبحث.. وللنبذ روح التقسيم والحكم على النيات التى ألفناها منذ فترة.. دعنا نراجع تصرفاتنا ومعاملاتنا منذ استيقاظنا فى الصباح وحتى ميعاد نومنا.. ولنجريها على حاكم الأخلاق والقيم والفضائل.. حينها فقط أستطيع أن أردد معكم أننا شعب متدين بطبعه...
صورة أرشيفية
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة