نقلا عن اليومى
هنا فى أرض الفيروز تقف آسفًا على حلم التعمير الضائع هباءً ثلاثين عاماً.. فالحلم كان أرضًا خصبة ومياهًا عذبة، وصناعة متقدمة، ومدنًا متحضرة.. حلم يساوى فى حجمه دماء الشهداء التى سالت من أجل استرداد سيناء من العدو الصهيونى.
تقف ولا تجد أمامك سوى واقع مرير، وأطلال لا يكفيها حتى البكاء، بعدما تحولت محافظة شمال سيناء لدى الدولة إلى مجرد بقعة أمنية لا تخدم سوى مصالح إسرائيل. بعد ثلاثة عقود من الإهمال لم يعد مصيرها مختلفا عن باقى محافظات الحدود.. أهلها محرومون من أدنى حقوقهم كمواطنين من الدرجة الأولى ، فإذا نظرت إلى أوضاعهم الاقتصادية، وحاولت أن تؤكد لهم أنهم يتمتعون بميزة واحدة لا يتمتع بها غيرهم، فستجد نفسك غير قادر على أن تنطق بكلمة واحدة.
وإذا أردت أن تبحث فى السياسة عن حق واحد تمتعوا به من حقوق الرأى والتعبير عنه، فستجدهم من أكثر الناس الذين عانوا ويلاته، وأصبحت المعتقلات والسجون تمتلئ عن آخرها بهم، والحجة.. دواعٍ أمنية.
أما إذا خُيل إليك أنهم تعلموا فى أفضل الجامعات، أو عولجوا فى أحسن المستشفيات، فلن نقول لك إلا أن تقرأ هذا الملف لتعرف حجم مشكلاتهم التى لن تستطيع آلاف الكلمات أن تعبر عن جزء ولو بسيط مما يعانونه..
لماذا لم تمتد حتى الآن يد التنمية إلى شبه جزيرة سيناء؟ هذه هى أول الأسئلة التى تتبادر إلى ذهنك فور أن تطأ أقدامك أراضى سيناء، وعندما تستمع إلى أبنائها تجد لديهم إجابة قاطعة نابعة من اقتناعهم بأن الدولة لا تريد أن تمد يدها إليهم، بل تجد فيهم من يصفها بأنها «يدُُ مقطوعة»، كل ما أنتجته خراب ودمار يغطى أهم مشروعات التنمية التى كان من المفترض أن تجلب معها العمار، وتنقذ الأهالى من البطالة أو العمل فى تجارة غير مشروعة.
فى سيناء لا يوجد تملك للأراضى الزراعية، المشروعات القومية متوقفة، الشواطئ مغلقة، أراضٍ شاسعة تبحث عن يد إنسان لتعميرها، ثروات معدنية تستطيع أن تعيد التوازن إلى الاقتصاد المصرى وتقفز به إلى أوائل الدول، لا تجد من يستغلها إلا عددا من رجال الأعمال، بما لا يعود فى النهاية على مواطنيها.
أسئلة كثيرة تقتحم بدون استئذان رأس كل من يرى أطلال المشروعات التنموية فى سيناء بعد أشهر قليلة من بدء العمل فيها فى عهد النظام البائد، ولم تحصد سوى تصارع وسائل الإعلام عليها لتصوير الرئيس السابق حسنى مبارك وهو يفتتح مشروعى ترعة السلام وقطار العريش عام 1998، دون الاهتمام بتصوير سيناء ومشاكل أبنائها، الذين تصل أعدادهم إلى مليون و200 ألف نسمة عجزت الحكومات السابقة عن سد احتياجاتهم.
فى شمال سيناء أصبح المواطنون لا يأبهون بأى إعلان عن خطة تنمية جديدة، لأنهم ما زالوا محتفظين بصور هدم المشروعات القديمة.
فى السطور المقبلة، نستعرض 3 مشروعات تجمعها نفس مشاهد الهدم والتخريب، لم تخرج عن نطاق مدينة واحدة وهى بئر العبد.
«ترعة السلام»
منذ صدور القرار الجمهورى بإنشاء ترعة السلام فى عام 1993 والتى حملت فى البداية اسم «الشيخ زايد»، ارتبط بها شعوران مختلفان، الأول هو سعادة أهالى المحافظة فور الإعلان عن المشروع، وفور أن انتهت المرحلتان الأولى والثانية من المشروع وبدأ العمل به فى 2002، أسرع السيناوية لمد مواسير المياه من الترعة إلى أراضيهم باعتبارها المنفذ الذى يروى ظمأ الأرض التى يقدسها كل من يعيش هناك.
أما الشعور الثانى فهو الإحساس باللعنة التى أصابتهم وعششت فى قلوبهم حزنا دفينا، إذ فوجئ المزارعون البسطاء بأن حلم أراضيهم انهار بعد سنوات قليلة لا تزيد على عدد أصابع اليد الواحدة فور توقف عمل الترعة بقرار سيادى أعاد من جديد اللون الأصفر إلى أراضى سيناء، كما يقول سليمان مرزوق، مهندس زراعى، موضحا أن قرار إنشاء الترعة صاحبه تخصيص الأراضى التى تحيط بها تحت ملكية الدولة، على أن تقوم ببيعها إلى المزارعين عقب انتهاء إنشاءات البنية التحتية، إلا أن ما حدث وفقا لشهادة سليمان أن السيانوية قاموا بوضع أيادهم على الأراضى المحيطة بالترعة دون دفع مقابل مادى لها كما كانت تخطط الدولة، وبالتالى صدر القرار بوقف ضخ المياه داخلها، الأمر الذى رفضه محسن محمد، أحد المزارعين على الترعة، قائلا: «أرض الترعة فى الأساس جزء من ملكية قبيلتنا ولم تقم الحكومة بتعويضنا ماديا أو حتى تمنحنا جزءا من الأراضى لكى نستكمل الزراعة التى نعيش عليها»، فى المقابل أكد العاملون بالترعة لـ«اليوم السابع» والذين طلبوا التحفظ على ذكر أسمائهم، أنهم قادرون على إعادة العمل فيها مرة أخرى دون مشاكل، ولكنهم لا ينتظرون سوى قرار من وزير الرى بذلك.
اعتمدت ترعة السلام فى مراحلها الثلاث على 8 محطات رفع مياه أساسية، منها 4 محطات فى المرحلة الثانية تختص بها شمال سيناء، وتضم 15 مأخذا لضخ المياه، وترفع أى من محطات الترعة ما يقارب من 14 مترا مكعبا من المياه فى الثانية على ارتفاع 3 أمتار، وتستطيع أن تغطى وفقا للمهندس أحمد عادل، أحد العاملين فى المحطة 5، حتى 275 ألف فدان.
وارتبط توقف العمل فى الترعة بالمحطتين 5 و6، ففى محطة السلام 6 الواقعة بالقرب من مدينة بئر العبد أحد أكبر مدن شمال سيناء من حيث الكثافة السكانية، لا تجد سوى مبانى محطمة بكل ما فيها من سيراميك وأرضية وزجاج وآلات، تغطى الرمال أطرافها، بعدما زحفت إليها عقب انتزاع الأشجار التى كانت تعيق سيرها، فضلا على سرقة الأبواب والمولدات وأدوات رفع المياه، وكلما تقترب من بئر العبد تجد أرض الترعة نفسها محطمة لانتزاع مادة البروبلين، وهى مادة عازلة تعد أغلى الخامات المستخدمة فى إنشاء الترعة.
سرقة محطة السلام 6 والتى توقفت عندها الترعة ولم يتم استكمال باقى محطاتها لم يتم بين يوم وليلة وفقا للمهندس سعيد فريشخ، عضو مجلس محلى المدينة السابق، الذى أوضح أن عمليات نهب المحطة استمرت عدة أشهر دون أى تحرك من الجهات المسؤولة عنها، سواء وزارة الزراعة أو الرى أو حتى الجهات الأمنية.
آثار التخريب الذى خيّم على مبانى محطة السلام 6 تغير تماما فور وصولنا إلى محطة السلام 5 والتى ما زالت تصطدم فى أولى نظراتك إليها بلافتة كبيرة مكتوبة: «حفظك الله يا مبارك»، فمن يقترب منها يرى الأراضى على الجانب الأيسر من المحطة من ناحية بورسعيد، تجرى فيها المياه لتروى عطش هذه الأراضى ولتملأها خضرة ونعيمًا. أما على الجانب الأيمن، فالحياة متوقفة تماما، والأراضى صحراء جرداء والمياه ملوثة وراكدة.
توقف الترعة أدى بدوره إلى منع الكثير من الأراضى الخضراء التى يعتبرها أهالى سيناء حائط الصد الأول لهم من أى عدو لأنه سيجعل هناك تنمية بشرية تستطيع أن تحافظ على الأرض وتغلق الأبواب أمام أطماع إسرائيل التى ما زالت تترقب أراضى سيناء حتى الآن.
قطار العريش
لا تختلف كثيرا مشاهد التخريب والتدمير السابق ذكرها لترعة السلام عما تعرض له قطار العريش، الذى لا يبعد عنها كثيرا، إلا أنك هنا لن تجد حتى أطلالا للقطار لتبكى عليها.. لدرجة أن الدليل الوحيد للتعرف على مكانه هو رصيف المحطة الذى لم يسلم أيضا من تدمير أرضيته وتحطيم أسواره بشكل لا يدل على مجرد السرقة وإنما التخريب المتعمد.
الطوب المكسور وبقايا الحديد الذى أكله الصدأ، يدل على وجود قضبان السكك الحديدية فى هذا المكان، والذى توقف أيضا عند أطراف مدينة بئر العبد، رغم أن قرار بنائه جاء فيه أنه يربط بين محافظات وادى النيل وبين محافظة سيناء حتى مدينة رفح المصرية آخر المدن الحدودية.
على رصيف القطار تنتشر بقايا زجاج مكسور من شباك التذاكر الذى اختفت أبوابه الحديدية، وداخل دورات المياه آثار أسلاك الكهرباء المنتزعة من جدرانه، بينما تجد الأخشاب وأحواض المياه محطمة على الأرض، وهو المشهد المتناقض تماما مع ما شاهده الجميع يوم افتتاح أولى محطاته عام 1997، وهو اليوم الذى ركب فيه «مبارك» القطار معلنا اهتمامه بتنمية سيناء بكلمات تبددت فور عودته إلى القاهرة، حيث لم تمر أيام إلا وتوقف القطار، بعدما توقفت وزارة النقل عن استكمال باقى محطاته المخطط لها إلى مدينة رفح، فما كان من المواطنين إلا إهماله لعدم نفعه سوى فى مدينة واحدة من مدن شمال سيناء الخمس، على عكس ما كان يتوقعه المهندس سليمان متولى وزير النقل والمواصلات الاسبق.
محاسبة المسؤولين عن إهدار الملايين على إنشاء القطار الذى دخل ضمن ميزانية مشروع تنمية سيناء البالغ 75 مليون دولار ولم يبق منه سوى أشلاء لا توضح حتى ملامحه، أمر ملح خاصة بعد تصريحات وزير النقل الحالى الدكتور سعيد جلال التى جاء فيها: «إن الوزارة قررت تخصيص 200 مليون جنيه لإعادة إحياء المرحلة الأولى منه»، وهو الأمر الذى استغربه سعيد أبوفريشخ، عضو المجلس المحلى السابق بمدينة بئر العبد، قائلا: «كيف نعيد تخصيص أموال جديدة قبل أن نحاسب المسؤولين عما حدث للقطار، خصوصا أن تخريبه وقع تحت مرأى ومسمع منهم، وقمنا بإبلاغ الجهات الأمنية التى لم تتحرك وأحدهم أخبرنى بأننا عارفين وسنتصدى لهم دون أن يحدث ذلك».
سعيد فريشخ أكد أن القطار يعد أحد المشروعات التنموية الذى يستهدف إنعاش الصناعة والزراعة فى سيناء من خلال نقل البضائع وتوصيلها بجميع مدن الشمال، بما كان سيسهل نقل المواد الخام التى يمتلئ بها على سبيل المثال الوسط، مضيفا: «لم يكن البدو يستطيعون أن يفعلوا أى شىء لأنهم كانوا عارفين إنهم هيتاخدوا، حصلوا على أراضى من المبانى حتى لا يتم البناء بالقرب منها».
قرى «رمانة وبالوظة»
مبانٍ خاوية لا تظهر فيها إلا ظلال الحيوانات الضالة التى لم تجد مكانا أفضل منه لكى تلجأ إليه، فهى تمتد على مسافة 8 كيلو مترات أمام الشاطئ، تملأ جدرانها تشققات ولّدتها آثار الزمان الذى توقف معه البناء، نتيجة قرار من المحافظة بعدم استكمال البناء، لتبقى 64 قرية سياحية تابعة لجمعيات أهلية يمتلكها المواطنون مهددة بالسقوط بشكل لم تستفد منه الدولة ولا حتى مالكوها.
تخصيص أراضى قرى شاطئ «رمانة وبالوظة» التابعة لمدينة بئر العبد بدأ عام 1993 حيث طرحت المحافظة الأراضى مقابل 3.5 جنيه للمتر الواحد أمام الجمعيات الأهلية لتشجيع السياحة الشعبية فى سيناء، وكان الاتفاق هو أن ينتهى أصحاب الجمعيات من تعويض أصحاب الأراضى من واضعى اليد بعقود عرفية يتم تقديمها إلى المحافظة التى تقوم على أثرها بتسليم الأرض إلى مجلس إدارة الجمعيات.
عامان من العمل على قدم وساق لإنهاء المشروع على أمل ان يفتح المجال أمام سياحة الشواطئ المتوقفة فى سيناء منذ خروج الاحتلال الصهيونى، انتهت فيهما معظم الجمعيات من إنشاء المبانى، لتبدأ فى رحلة البحث عن المرافق، والتى لم تصل حتى الآن سوى إلى 4 قرى سياحية تحمل تكاليفها جهاز تنمية سيناء دون باقى القرى السياحية، حسبما يقول المهندس الزراعى سلامة محمد سلامة، رئيس مجلس إدارة جمعية البناء والإسكان لأهالى بالوظة، مضيفا: «امتنع الجهاز عن مد المرافق إلى باقى الجمعيات والتى كانت ستتحمل تكاليف باهظة واستمرت المشكلات مع المحافظة حتى عام 1997 لنفاجأ بقرار جديد من المحافظة بوقف العمل فى المشروع، بل من كان يعمل كانوا يحررون ضده محضراً».
15 عاما مرت على توقيت إصدار القرار الذى راح ضحيته المواطن العادى ليحرمه حتى من الشاطئ العادى، فلا يوجد فى شمال سيناء إلا شاطئ العريش الذى تستغله القرى السياحية وتصل إليه كل الخدمات والمرافق التى تحافظ الدولة على مدها إليها.
الأوضاع المزرية التى وصلت إليها أغلب القرى حاليا من تآكل أعمدتها ومبانيها المهجورة والتى لا تسكنها سوى الحشرات والطيور والحيوانات الضالة تنذر بكارثة إذا لم يتم لحاقها من السقوط الذى تشعر به فور التجول وسط المبانى لتجد نفسك وكأنك فى مدينة الأشباح، وهى مشاهد تنعكس على لافتاتها التى ذابت أوراقها بشكل لا تستطيع أن تميز معها اسم القرى نفسها، ولم يرحم حتى القرى التى وصلت إليها المرافق ليقوم المسؤولون بوقف ضخ الكهرباء ونزع خزانات المياه التى تم تركيبها على أسطح المبانى لتنضم إلى باقى القرى من حيث الخراب والتدمير.
أهالى «القديرات» أسرى الجوع والتهريب.. و«ديمونة إسرائيل» تحاصر سكان «شبانة» بالأورام.. والدولة ترفع شعار ممنوع الاقتراب أو التصوير
أمام منزل بدائى، جلس سليمان ممسكا بين يديه عصا يرسم بها على الأرض خطوطًا غير مفهومة الدلالة، يقول إن هذه الخطوط تعبر عن حياة سكان القرى الحدودية المجاورة لإسرائيل والذين «سقطوا تماما من حساب النظام السابق».
معاناة سكان القرى الحدودية فى شمال سيناء، رصدتها «اليوم السابع» بزيارة إلى قرية القديرات فى منطقة الوسط، وقرية شبانة فى مدينة رفح الحدودية، ظهر خلالهما مدى المعاناة التى يعيشها سكان تلك المناطق بسبب الدواعى الأمنية التى تتردد على مسامعهم كلما طالبوا بأن يعيشوا كغيرهم من المواطنين.
ترك سليمان العرجانى العصا التى كان يمسكها فى يديه، وبدأ يقص طرفا من معاناته التى تعكس جزءًا من معاناة أبناء قرية القديرات، العرجانى لديه ثلاثة أبناء.. ولدان وبنت، الأول عاد إلى والده قبل شهر بعد ثلاث سنوات قضاها فى السجون الإسرائيلية ضمن صفقة تبادل الأسرى الأخيرة، أما الثانى فمازال محبوسا فى سجون الاحتلال الإسرائيلى، ولم تمر من عقوبته البالغة 15 عاما إلا ثلاثة أعوام فقط، والثالثة هى ابنته الصغرى وعمرها 15 عاما وتعانى من إعاقة بدنية.
سليمان يرى حياة المدينة مرة واحدة أول كل شهر، فهو لا يستطيع أن يتحمل تكلفة الذهاب إلى العريش فى ظل معاشه الذى لا يتجاوز 120 جنيهًا.. فهنا لا توجد وسائل مواصلات تربط بين قرى الوسط وباقى مدن الشمال، لا تجد سوى السيارات الخاصة، و«كأن الدولة قررت على حد قوله أن تخرج أهالى الحدود من حساباتها».
إلى جانبه، جلس إبراهيم حسن، الوحيد الذى نجا من بطالة كل شباب القرية بعدما عينته وزارة الأوقاف حارسا على مسجد القرية، وهو الممثل الوحيد للدولة فى القرية، ويعتبره الأهالى هناك من «النخبة» لأنه أولاً حاصل على شهادة إعدادية، وثانيًا حظى بمنصب فى الحكومة.
بدأ حسن حديثه، وسط إنصات كل أهالى القرية، وقال: «الناس هنا لا تجد مصدر رزق غير التهريب، أمامهم خياران إما الموت جوعًا أو العمل بالتهريب» مضيفًا: «قديمًا كنا نعتمد على المطر فى الزراعة، وحاليًا الجفاف يحاصرنا، والدولة غير مهتمة بتوصيل المياه إلينا سواء للشرب أو الزراعة».
وسط سيناء تمتلك مناظر جمالية خلابة.. تحوى سلاسل جبلية وكهوفا ومغارات ومناطق أثرية يعود بعضها إلى العصر الفرعونى والرومانى لكن التجول فيها ممنوع بقرارات أمنية بالرغم من قدرتها على إنعاش المنطقة سياحيًا، كما يقول إبراهيم.
يتحدث أهل القرى الحدودية مؤكدين أنهم وسط كنز مدفون تحيط بهم الثروات المعدنية، لكنهم رغم ذلك قابعون فى فقر مدقع وظلام دامس فى ظل عدم وجود كهرباء إذ لا تأتى إليهم إلا يوما واحدا فى الأسبوع.
يعيش أهالى القرية على أموال المعونات، يقول إبراهيم «مسؤولو مشروع تنمية سيناء الذى ترعاه الوكالة الأمريكية يأتون كل فترة لبناء بيوت أو رصف طرق، بينما يتركون الإنسان نفسه دون أى وسائل خدمية».
«إحنا محاصرين بين الفقر والمرض، باحاول أوفر أكل لعيالى ولو على حساب حياتى أحسن ما يموتوا من الجوع»، هكذا قال منصور أحد سكان القرية، مضيفاً: «حتى لو الحكومة جاءت هنا لتبنى المشروعات سنكون خارج حساباتها، فكل أبناء القرية غير متعلمين، والمدرسة الوحيدة التى بنتها وزارة التربية والتعليم بلا مدرسين لأنهم يعتبرون العيش وسطنا كأنهم منفيون ولهم كل الحق فى ذلك».
يتدخل محمود مدافعًا عن أبناء وسط سيناء ضد الاتهامات الموجهة إليهم بالعنف والإرهاب، قائلاً: «الحياة صعبة وقاسية للغاية، وهذا هو السبب فى حدة طباعنا، لكننا لسنا إرهابيين، كما كان الأمن يتعامل معنا طوال فترة حكم مبارك».
«شبانة».. محرومة من الزراعة لصالح إسرائيل
إذا لم تكن بينك وبين وسائل الحياة الكريمة سوى بضعة أمتار لكنك محروم منها بقرار أمنى، تحاصرك الأمراض والأوبئة والحشرات، ويضطر أطفالك إلى أن يخرجوا فى الثالثة فجرا لكى يستطيعوا الوصول إلى المدرسة مبكرًا سيرًا على الأقدام لمسافة تقرب من تسعة كيلو مترات.. فهل ستشعر وقتها بأنك مواطن قدمت لك الدولة الحقوق والواجبات التى تستحقها».
هذا هو الحال فى قرية شبانة إحدى القرى التابعة لمدينة رفح والتى يُعاقب مواطنوها دون ذنب اقترفوه إلا أنهم وجدوا على الحدود ليحرموا من الزراعة وحفر الآبار والتعليم والصحة والكهرباء والمياه.
«شبانة» تعانى من نفس الظروف التى تعتصر باقى القرى الحدودية، لكن يُضاف إليها انتشار الإصابة بالأورام لقربهم من مفاعل ديمونة الإسرائيلى الذى وفقًا لتقارير حكومية مصرية عديدة صدرت فى الفترة الأخيرة تتسبب إشعاعاته فى أضرار كبيرة على سكان المناطق الحدودية.
سالم أبوناصر باحث النباتات الطبية فى جامعة القاهرة، وأحد أهالى القرية، يستنكر عدم تحرك الدولة لعمل أى دراسات فى القرية رغم الشكاوى المتعددة التى يرفعها المواطنون فى ظل تزايد أعداد المرضى، وتأثر الثروة الحيوانية التى بدأت تموت وتشوهات الأجنة.
ولفت سالم إلى أن مرضى الأورام فى القرية لا يلاقون إلا الموت، نظراً لعدم وجود أى مستشفيات مجهزة لعلاجهم على مستوى مدن المحافظة، موضحًا أنهم فى الماضى كانوا يذهبون إلى مستشفى الإسماعيلية والتى اكتشفوا من خلال تقاريرها سبب الإصابة بالإشعاع، لكن الجهاز فيها معطل منذ سبتمبر الماضى، ومن الصعب عليهم ماديا وحركيا الذهاب إلى القاهرة، مختتمًا كلامه، قائلاً: «بقينا نزور المدافن كثيرا فى الشهور الأخيرة».
الدكتور وسام مصطفى الأغا، مدير مستشفى الشيخ زويد، يؤكد أن توافر أطباء متخصصين نادر فى المستشفيات الحدودية، مشيرا إلى أن أغلب الغرف فى المستشفى مغلقة أو لا يوجد فيها سوى أطباء الانتداب والامتياز الذين لا يصمدون سوى 6 أشهر، لا يأتون فيها إلى المستشفى إلا أيامًا معدودة حتى إن المسؤول عن وحدة الغسيل الكلوى فى الأصل إخصائى باطنة، وقال: «علمنا منذ 6 أشهر أن الوزارة ستخصص 3 ملايين لترميم المستشفى لم نستلم منه أى شىء»، وهو نفس ما قالته لنا إحدى الممرضات التى قالت «التجهيزات فى المستشفى إما لا نستطيع تشغيلها لعدم التدريب أو لا يوجد أطباء لعلاج المرضى، وبالتالى فأغلب الوقت يتم تحويلهم إلى مسشتفى العريش أو القاهرة».
تعوم شبانة على مخزون ضخم من المياه الجوفية يستطيع أن يؤهلها لتكون أغلى المدن الحدودية من حيث الثروة الزراعية إلا أن قيادات القاهرة، كما يطلق أهل القرية على المسؤولين الحكوميين قرروا منع ذلك لدواعٍ أمنية يخالفها المنطق، فبمجرد الصعود أعلى أى سطح للمنازل لتنظر إلى الجهة المقابلة من إسرائيل فتجدها خضراء لتدرك أننا نوقف استغلال المياه لصالح العدو الذى يستغلها فى إعمار أرضه.
المنع لم يوقف أهالى القرية من الزراعة كما يقول فؤاد، أحد العاملين فى مجال الآبار، لكنه حاصر الأهالى بين الأحكام الغيابية والغرامات بسبب الزراعة بدون ترخيص.
رفح.. أنفاق التهريب
بمجرد أن تتجاوز الكمائن المنتشرة على طول طريق الشيخ زويد، تجد فجأة رسالة تقول: «مرحبا بك فى فلسطين» ورسالة أخرى تحمل نفس المضمون لكنها باللغة العبرية.. لا تنزعج فأنت ما زلت على أرض مصرية، لكنك أصبحت فى رفح التى تعاقب الدولة مواطنيها منذ الثورة بقطع كل شبكات المحمول لصالح شبكات الجوال الدولية - على حد قولهم.
على امتداد 12 كيلو مترا مساحة مدينة رفح التى تقع على الحدود مع قطاع غزة توجد شبكة معقدة تحت الأرض من الأنفاق التى وإن لم تستطع رؤيتها تحت المنازل يمكنك أن تلاحظها على تشققات الجدران وانخفاض مستوى الأرض تمر على أحد الشوارع فتجد منزلا مهدما بكامله تحت الأرض، وقبل أن تسأل تأتيك الإجابة «أصله كان فوق نفق لكنه لم يستطع الصمود»، أغلب المنازل هنا مائلة وبلا زجاج على نوافذها وذلك تفاديا لتحطيمها أثناء الغارات الإسرائيلية على غزة».
المحال التى تملأ قرى رفح الواقعة على حدود قطاع غزة لا تعبر عن زهوة اقتصادية تعيشها هذه البلدة بل تعلم أن أغلبها مخازن لنقل البضائع عبر الانفاق إلى الجهة الأخرى.
«نعم هى تجارة غير مشروعة، لكنها الشىء الوحيد الذى أنقذ الأهالى هنا من الفقر»، قالتها منى برهومى، عضو المجلس المحلى السابق فى رفح، مضيفة: «النظرة الأمنية إلى سيناء مازالت كما هى دون تغيير، ترى أنها لا تصلح إلا لزراعة الخروع، مما جعل العدو يطمع فيها لأنهم يعلمون قيمتها، الدولة لم تأتِ إلى رفح سوى بعد خروج الإسرائيليين منها فى 82 فبنت مدرسة ومستشفى، وتناستنا بعد ذلك، فلا وظائف ولا مشروعات، ممنوع الزراعة بعدما كانت إسرائيل تصدر من عندنا الزهور والورود عبر مطار الجورة إلى دول أوروبا، حتى شاطئ رفح الذى يعد المتنفس الوحيد لأغلبنا مغلق طوال العام عدا شهرين أمام أهالى البلدة، ولا تدخله إلا بالبطاقة فى حراسة الجيش».
الظروف المعقدة التى ذكرتها منى برهومى دفعت أبناء رفح للعمل بالتهريب عبر الأنفاق، تلك التجارة التى بدأها الفلسطينيون عقب الحصار الذى فرضته عليها إسرائيل.
فى رفح الحدودية تضل مشروعات التنمية طريقها.. شبكة الصرف الصحى التى أعلنت عنها الحكومة بأموال تزيد على 100 مليون جنيه منذ عام 2000 لم تصل إلى المنازل التى تعوم فوق مياه صرف يحتاج شفطها إلى سيارات خاصة كل يومين وإلا تصعد إلى المنازل وتختلط بآبار الزراعة.
المواطن فى رفح، وفقًا لما يردده أبناؤها، مطارد من الجهات الأمنية بسبب عمله فى الأنفاق، لكن ذلك لا يمنع بعض أفراد الأمن من التعاون معهم فى التهريب مقابل مبلغ مالى من الأرباح.
يقول «خالد» أحد العاملين فى التهريب: «من لا يتعاون مع الأمن يكون مصيره السجن الذى يجمع المئات من أبناء رفح، وهو ما دلل عليه، قائلا: «الأمن يستطيع إغلاق كل الأنفاق ومنع أى شىء من الدخول، لكن عناصره كانت مستفيدة من التهريب».
عودة الأمن للسيطرة على رفح «صعبة» - على حد قول مواطنيها - إلا بعد إنهاء الخصومة التى تربت على مدى سنوات حكم النظام السابق، ولن تتحقق، كما يقول سمير فارس الموجه بوزارة التربية والتعليم إلا من خلال خروج المعتقلين خصوصا الشباب وإنهاء الأحكام الغيابية بالإضافة إلى تحويل معبر رفح إلى منطقة حرة للتجارة بين مصر وغزة التى يسكنها 2 مليون نفس من أكثر المستهلكين على مستوى العالم، مضيفًا: «مفيش حد عايز يقوم بأعمال غير شرعية ونادينا بهذا المشروع منذ سنين، ولا نعلم سبب عدم الاستجابة».
المياه فى رفح لا يراها المواطنون إلا فى «الجراكن» التى يملؤها الناس من إحدى الآبار ويبيعونها لأن خزان المياه الذى بنته الدولة، وتكلف 12 مليون جنيه، كما تقول منى برهومى، لا تصل إليه إلا 1000 متر مكعب لا تكفى حتى لغسيله - على حد قولها - بالرغم من أنه يأتى من خط النيل الذى يمتد أسفل الأرض، لكنها تعود وتفسر السبب قائلة: «أغلب مياه الخط تذهب إلى المشروعات والشركات الصناعية الخاصة برجال الأعمال والقرى السياحية فى العريش وعقبال ما تصل إلى رفح تكون انتهت».
حسن حنتوش، الناشط سياسى، أكد أن البطالة زادت فى رفح بسبب عودة أبنائها من جنوب سيناء عقب ركود السياحة، وهو ما ينذر بمشكلة فى البلدة لأن التهريب لم يعد بنفس الكثافة، حيث لا يعتمد حاليا سوى على مواد البناء والبنزين والجاز، وبالتالى انخفضت أعداد العاملين فيها.
يقول حسن إن الدولة لم تتقدم ولو خطوة واحدة تجاه القرى الحدودية لتثبت حسن نيتها تجاه خدمة مواطنيها، وكأنها تريد أن تجعلهم ينزحون منها، وهو بالطبع أكثر ما تتمناه إسرائيل التى تعتبر الوجود البشرى خطرا عليها.
شمال سيناء.. دمر النظام السابق حلم تعميرها لصالح إسرائيل.. ترعة السلام وقطار العريش ورمانة وبالوظة.. مشروعات يد التنمية «المقطوعة» فى «الفيروز».. قرى «الشمال» تحتضر.. لدواع ٍ أمنية
الأحد، 26 فبراير 2012 10:11 ص
جنوب سيناء
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
ياسين
كلام ولا اروع