عبد الرازق أحمد الشاعر يكتب: شايلوك وتاجر الحرية‎

الأربعاء، 22 فبراير 2012 07:19 ص
عبد الرازق أحمد الشاعر يكتب: شايلوك وتاجر الحرية‎ صورة ارشيفية

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
وجد أنطونيو تاجر الحرية نفسه بين خيارين خيرهما شر، إما أن يدير ظهره لصديق وثق به وأعطاه صوته يوم تخلت عنه الكلمات، أو يلجأ للاقتراض من شايلوك النقد المرابى مقابل رطل من لحمه الذى كان بالكاد يغطى قفص صدره الآيل للحشرجة مع كل نفس.

كان أنطونيو يثق بسفنه التى تحمل من الآمال ما يسد حاجة جيش ضل طريقه فى بيداء مهلكة بضع شهور، وكان يثق بقدرة بحارته الذين سبحوا ضد التيار أعواما دون أن يبالى أحد بإلقاء قطعة فلين تبقيهم فى سجل الأحياء يوما أو بقطعة خبز يابسة تشبع جوعتهم إلى أخ أو صديق، أو بخرقة يغطون بها ظهورهم الملتهبة من تخلل ملح الخوف إلى أقصى أعماق جروحهم النافذة إلى أرواحهم المتعبة.

لكن أنطونيو الذى وثق بالموج دون أن يختبر نواياه، لم يكن قد قرأ ترجمة مثلنا العربى بأن رياح الغدر تأتى من حيث لا تحتسب الأشرعة.

نام أنطونيو قرير العين بعد أن مهد لصديقه باسانيو سرير زوجية مطعم بالدفء من بورشيا التى أحبها قدر ما يستطيع وأخلصت له فوق ما يحب.

وذات ليلة لم تكن مقمرة كما ينبغى، ناحت يمامة الأيك فوق آخر شراع لآخر مركب يحمل حبوب الخلاص. استيقظ أنطونيو على حقيقة مرة بعد أن فقد ومضة الأمل الأخيرة فى عيون المستقبل، ووجد نفسه وجها لوجه مع استحقاقات المستقبل مهددا بنزيف الروح أمام خصم لا يحمل فى جيوبه أى عملة من عملات الآدمية، إلا أنه ظل ممسكا بهدب الأمل عسى أن تمتد له من شقوق الموج الكالحة يد صديق، فلطالما امتدت يداه بالخير للجميع. لكنه، كعادة الطيبين من أهل ريفنا الحبيب، كان طيبا لدرجة السذاجة.
مرت على أنطونيو لحظات عصيبة، وهو يمضع علكة الأمل ظانا بأهل الجوار والتاريخ والجغرافيا أى خير. كان يؤمن بأن حزمة الحطب لا تنكسر إلا حين تتفرق عيدانا، لكنه أدرك وهو يئن تحت سكين شايلوك أن الدم الذى يرسم فوق لوحة الجغرافيا حدود مصالح ومنصات صواريخ هو دمه، وأن رياح التاريخ لم تعد تسيّر مراكب الثقة أو تحمل أشرعة اليقين فى زمن ينكر المرء ظله.
أخشى أن يتحول إيمان شايلوك تحت شفرة جزار الكوكب إلى لحم مجرد يئن مع كل وخزة، ويتناسى أن دماءه التى تسيل على أروقة معبد الثقة ليست له وحده، بل هى دماء أجيال تحمل عريها على قارعة طريق لم تتبين ملامحه. أخشى أن يظهر نفاد صبر أو رعشة شفاه وهو يساق إلى قمة الحزن وحيدا غريبا لا يبكيه أحد، فيسخر شايلوك من مذكراته التى ملأت شوارع التاريخ بالمنشورات السرية التى تدعو إلى قلب نظام الذل عن ظهر بعير الإخاء.
آه لو يعلم سفراء المستقبل أنهم لن يدفعوا من أجسادهم النحيلة خردلة من لحم أو قارورة غطاء من دم! آه لو يعلم الموقعون على وثيقة الذل أنهم يجرّون حصان البلاد الجامح إلى ثلاثين خطيئة أقلها أن يزنى المرء بالتاريخ والجغرافيا على قارعة غياب. ليتهم يعلمون أن شايلوك لن يرحم أنات أبنائنا فى شوارع المستقبل، وأنهم وحدهم سيدفعون من جلودهم الطاهرة ثمن خطيئتنا بالعودة إلى قيد العبودية لكل مانح. وليتنا نثق بأن قرضا لا يفى بشراء سراويلنا الداخلية مقابل أرطال من لحم البلاد لن يستر عوراتنا أمام أعين المتربصين.





مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة