الوجهان المتناقضان السابقان، الأول يعبر عن عاصمة المحافظة مدينة الغردقة، والثانى يعكس حال سائر المدن الأخرى «رأس غارب والقصير وسفاجا ومرسى علم وشلاتين»، فالعلاقة بين الغردقة وأخواتها، كالعلاقة بين رجل ثرى للغاية أصيب بالتخمة من كثرة ثرائه، يذهب إليه أخواته بين الحين والآخر ليأكلوا من طعامه ويتداووا من جراحهم على أيدى أطبائه، فمثلاً تعانى مستشفيات القصير وسفاجا ورأس غارب من إهمال شديد وافتقاد لبعض التخصصات ما يدفع سكانها إلى الذهاب مباشرة إلى الغردقة للعلاج فيها أو اللجوء إلى المستشفى الموجود فى كل مدينة والتى تحيل أغلب الحالات التى تأتيها إلى مستشفى الغردقة العام.
الغردقة الأكثر ثراء بين مدن البحر الأحمر، تتوافر الخدمات الأساسية لأغلب أبنائها، لكنهم مع ذلك الأكثر شكوى، لأن المدينة «اجتذبت مجموعة من رجال الأعمال خلال السنوات الماضية، خالفوا القوانين المحلية والدولية فى بناء القرى السياحية، فدمروا الثروة السمكية ما عاد بالسلب على قطاع كبير من أبناء المدينة الساحلية الذين عملوا بالصيد» إضافة إلى مجموعة أخرى من الأزمات ترصدها «اليوم السابع» فى سلسلة التقارير التالية، والتى تبدأ بزيارة لحى عشوائى فى قلب الغردقة وهو حى زرزارة.
◄ الصيادون.. ضحايا ردم الشواطئ وتدمير الشعاب المرجانية..الصيد الجائر.. معركة تشتعل يوميًا بين صيادى الغردقة والفيومية وأصابع الاتهام تطال هيئة الثروة السمكية.. مسؤول بالثروة: لا نتواطأ ودورنا ينتهى عند تحرير المحضر.. ومنسق عام الصيادين: هناك تساهل من «الثروة السمكية» وحرس الحدود مع المخالفين
«كانت رحلات الصيد تعود حاملة الخير لأهالى الغردقة، كان الصيادون يقفون فى الشارع يوزعون الأسماك مجانًا على المارة. وقتها كانت مياه البحر تحتضن أنواعًا مختلفة من الأسماك وبكميات كبيرة، أمّا الآن فالحالة يُرثى لها».
تعانى مدينة الغردقة، عاصمة محافظة البحر الأحمر، من تراجع شديد فى الثروة السمكية المستخرجة من مياهها، فوفقًا لحديث الشيخ على سليمان عضو مجلس شيوخ عشائر الغردقة، فإن حال الصيد والصيادين «يرثى له» لأسباب كثيرة، بدءًا من عمليات ردم مساحات كبيرة من البحر لحساب القرى السياحية، مرورًا بالصيد الجائر الذى تبناه صيادون وافدون من محافظات أخرى، نهاية بتواطؤ مسؤولين رسميين فى جهات حكومية لتمرير بعض المخالفات أثناء الصيد، على حد قوله.
الآن، نحن فى ميناء الصيد أو حوض السمك، كما يطلقون عليه، ترسو هنا مئات السفن فى مساحة صغيرة (لا تزيد عن 50 متراً عرضًا و100 متر طولاً)، تتلاصق السفن سواء التى تستعد للخروج فى عمليات صيد أو التى تخضع للتصيين أو تلك التى مُنع صاحبها من الصيد بسبب ارتكابه مخالفات فى نوع الشباك المستخدمة فى الصيد أو لاستخدامه مواد محظور استخدامها (كالسم أو البودرة أو غيرهما).
السبب الرئيس وراء تدمير الثروة السمكية بمحافظة البحر الأحمر عمومًا وبمدينة الغردقة خصوصًا، وفقًا لمحمد عربى، عضو مجلس إدارة جمعية الصيادين، هو الصيد الجائر، ويُفصل الريّس عربى حديثه قائلاً: «قدم إلينا قبل سنوات مجموعة من صيادى المياه العذبة، اعتادوا الصيد بطرق وأدوات معينة لا تتناسب مع طبيعة مياه البحر الأحمر، فتسببوا، عن جهل، فى تدمير الثروة السمكية تمامًا».
استطرد عربى، الذى قضى أكثر من خمسين عامًا فى مهنة الصيد بالغردقة، ليشرح تفاصيل الصيد الجائر، قائلاً: «الصيادون الوافدون من الفيوم يستخدمون شباكا فتحاتها ضيقة للغاية، تصطاد هذه الشباك كمية أكبر من الأسماك، لكنها تقتنص السمك الصغير، وهذا يدمر الثروة السمكية» مفصلاً: «يجب ترك السمك الصغير فى المياه حتى يكبر بدلاً من اصطياده فى مهده، كما أنهم يقومون باصطياد أسماك زينة وأنواع أخرى من الأسماك التى لا تؤكل»، وواصل: «الفارق الرئيس بين طريقتنا وطريقتهم أننا نستخدم غزلاً (شباك صيد) واسعة فتحاته ونقوم بالاصطياد «من على وش المياه» وأقصى عمق تصل إليه شباكنا هو ثلاثة أمتار فقط حتى لا تسقط على الشعاب المرجانية، وإذا علقت الشباك بالشعاب نضطر للنزول لـ«تسليك الشباك» أمّا صيادو المياه العذبة الوافدون إلينا فيقومون بإلقاء شباكهم على أعماق بعيدة، وحين تسقط الشباك على الشعاب يقومون بتكسير الشعاب بواسطة عصى يصطحبونها معهم، وهذا يؤدى إلى فرار الأسماك لأن الشعاب هى بيوتهم».
الخلاف بين الصيادين الأصليين من أبناء البحر الأحمر وبين نظرائهم الوافدين إليهم من المياه العذبة يظهر بوضوح داخل حوض السمك الذى تجده مقسومًا إلى فريقين، الأول ويمثل الغالبية، وهم من أبناء المحافظة ويتواجدون فى أغلب أرجاء المكان، أمّا الفريق الثانى، وعدده أقل، فيتواجد فى أقصى يمين الحوض، وهم صيادو المياه العذبة أو «الفيومية والمطراوية» كما يُطلق عليهم.
الطرفان تفصلهما مسافات قليلة للغاية، لكنّ الفجوة بينهما كبيرة.. حديثهم حاد تتخلله مشاحنات عديدة، كل منهما يلمز الآخر ولا يكف عن انتقاده، كما أن لكل منهم جمعية صيد خاصة به تنظم عمله، وهذا، على حد قول صيادى البحر الأحمر، مخالف للقانون، إذ لا يجوز الموافقة على إنشاء جمعيتين للصيد فى مدينة واحدة.
يقول عبده أبو الخير، أحد الصيادين الوافدين على البحر الأحمر معلقًا على الاتهامات الموجهة إليهم: «نحن لا نستخدم فى الصيد أى مواد مخالفة كالبودرة أو البنادق أو غيرهما، نحن فقط نبحث عن الرزق ولا نهدف لتدمير الثروة السمكية» مضيفًا: «مسموح لنا باستخدام الشباك، وإذا وجدت هيئة الثروة السمكية أو المسؤولون بالبيئة لدينا مخالفات فسيقومون على الفور بإيقافنا وهذا يحدث لقلة من الصيادين لدينا».
واصل أبو الخير، الذى يعمل سكرتيرًا لجمعية الصيادين حديثه، قائلاً: «دائمًا ما يتهموننا باستخدام شباك ممنوعة، وهذا غير صحيح، نحن لا نخالف القوانين، وشباكنا لا تقتل أو تدمر، كما أننا لا نلقيها على الشعاب لأنها إذا سقطت عليها فسوف تتلف نهائيًا، ولن نتمكن من استخدامها مرة ثانية».
يقود الخلاف بين الطرفين على الطرق المُثلى للصيد والتزامهما بها إلى البحث عن إجابة لدى الجهات المسؤولة عن مراقبة ومتابعة التزام الصيادين بالمعايير المنصوص عليها قانونًا وهى هيئة الثروة السمكية والمسؤولون بوزارة البيئة، والأولى يتهمها صيادو البحر الأحمر بأنها تعلم جيدًا مخالفات الصيد الجائر ولا تمنعه على الإطلاق.
مسؤول بهيئة الثروة السمكية، طلب عدم ذكر اسمه، رفض بداية القول بأن الثروة السمكية فى البحر الأحمر تم تدميرها، موضحًا: «الثروة السمكية لم تدمر كما يُشاع، لكن تزايد عدد الصيادين بصورة ما أثّر على حصة كل منهم من الأسماك»، متابعًا: «الاتهامات الموجهة إلينا غير صحيحة، نقوم بمنع الصيادين من استخدام الشباك غير المسموح بها، وكل صياد يخالف القانون نقوم بتحرير محضر ضده، والنيابة هى التى تصدر حكمًا عليه، والأحكام غالبًا تكون بمنع القارب من الصيد وإيقاف صاحبه فترات تبدأ من شهر وتستمر حتى عام كامل حسب المخالفات».
وأضاف: «نقوم ببيع السمك الذى يحصل عليه الصياد المخالف للقوانين فى مزاد، ونقوم بتسليم المضبوطات للنيابة، وينتهى دورنا عند هذا الحد» متابعًا: «إشرافنا على الصيادين يكون قبل خروجهم للمياه، وأثناء تواجدهم فى الميناء، لكن لا أعلم عنهم شيئًا حين يتواجدون فى عرض البحر والمسؤولية هنا تقع على وزارة البيئة، لأن الجهات التابعة لها تمتلك لانشات بحرية تقوم بالتفتيش على الصيادين».
الرد السابق من مسؤول الثروة السمكية، قابله رد عنيف للغاية من مسؤول بوزارة البيئة هو صالح سليمان منسق عام للمجتمعات المحلية للصيادين بمحميات البحر الأحمر الذى أكد أن السبب الرئيس فى المخالفات التى تحدث من بعض الصيادين هو تساهل مسؤولين بهيئة الثروة السمكية وقيامهم بـ«تبويظ» بعض المحاضر التى تحرر ضد صيادين يخالفون القواعد، مؤكدًا أنه كان يفاجأ أثناء تأدية عمله ببعض مسؤولى هيئة الثروة السمكية يتعاملون برفق مع صيادين يستخدمون شباكًا ممنوعة، ولا يحررون لهم محاضر، وحين نطلب منهم ذلك يرد بعضهم قائلاً: «أنتم لا تعلمون تفاصيل القانون ومتى يتم معاقبة الصائدين». وامتدت اتهامات سليمان لتصل إلى مسؤولى جهاز حرس الحدود، ولكن اتهاماته هذه المرة كانت بـ«الإهمال» وليس التواطؤ، مؤكدًا أن قوات حرس الحدود حين تكتشف مخالفات لا تتعامل معها بالطريقة المناسبة.
أزمات الصيادين لم تقتصر على الصيد الجائر الذى يدمر الثروة السمكية فقط، لكنهم يعانون من أزمات أخرى يراها بعضهم أكثر خطورة وضررًا من ممارسات صيادى المياه العذبة، فى مقدمتها ومؤخرتها ومنتصفها، وربما قبل كل شىء وبعده تأتى القرى السياحية التى اقتطعت مساحات كبيرة من الشواطئ.
الريس محمد عربى قال: «الأزمة ليست مع القرى السياحية فى حد ذاتها، ولكن فى الفساد الذى سمح للمستثمرين بردم البحر، ما تسبب فى قتل أسماك كثيرة، إضافة إلى هروب الأسماك من المنطقة، ومن يقارن عدد الأسماك قبل تواجد القرى السياحية فى المنطقة وعددها الآن، فسيدرك الكارثة الحقيقية».
وللقرى السياحية أثر سلبى أيضًا على مراسى الصيد يرصده وائل جمال، أحد الصيادين، بقوله: «سابقًا كانت سفن الصيادين ترسو فى مكان يمتد إلى خمسة كيلو مترات، والآن السفن تتزاحم فى ميناء صغير لا تتجاوز مساحته مئات الأمتار» وأضاف: « تحدثنا كثيرًا مع المسؤولين ولكن أحدًا لم يهتم بنا ولم يعلق على ما قام به أصحاب تلك القرى السياحية وتأثيرها السلبى علينا». وفوق هذا وذاك، فإن الصيادين مجتمعين أبدوا تضررًا من التلوث البيئى المنتشر فى الميناء بسبب تفريغ ماسورة صرف محتوياتها فى البحر بجوار الميناء المخصص لهم مباشرة، إضافة إلى عقبات أخرى إدارية على رأسها تبعية محافظة البحر الأحمر للسويس إداريًا فى كل ما يخص الثروة السمكية، وهوا أمر استفز الريس عربى ليتساءل: «كيف تكون البحر الأحمر بكل سواحلها الممتدة من رأس غارب إلى أقصى الجنوب تابعة للسويس التى لا تتعدى مساحة سواحلها ثلث سواحلنا».
◄ زرزارة العشوائية.. ضع يديك على أنفك حتى تبتعد عن هذا المكان.. الحى الفقير يكشف عورات المدينة الثرية.. والأهالى: «نفسنا نعيش زى البنى آدمين».. مجلس المدينة يحدد 130 جنيهاً ثمناً لتملّك المتر الواحد.. والسكان: «إزاى يكون سعر المتر على البحر دولار واحد وهنا 130»
يبحث سكان هذا الحى عن إجابة لتلك الأسئلة: إذا كانت الغردقة من أغنى مدن مصر فلماذا نعيش فى تلك البيوت؟ ولماذا لا نجد شربة ماء نقية تروى ظمأ أبنائنا؟ ولمَ نشعر فور دخولنا هذا المكان بأننا «فرز تالت» من البشر؟
فى قلب مدينة الغردقة، عاصمة محافظة البحر الأحمر السياحية، وعلى بعد أمتار من شارع السلام، أحد أكثر شوارع المدينة حيوية، يعيش قرابة 30 ألف نسمة فى حى زرزارة العشوائى المفتقد أغلب الخدمات الأساسية.
ترسم الروائح المنبعثة من «السلخانة» المتواجدة فى مقدمة زرزارة صورة فى ذهن زائرى المكان عن طبيعته، وتفاصيل الحياة فيه، حتى قبل أن تطأه قدماك، الآن تترك شارع السلام وتتجه يسارًا نحو «الوجه القبيح والفقير للغردقة» على حد قول أهلها.
قبل دخول زرزارة، تلقينا تحذيرات لا يحصيها إلا الله من سكان الغردقة، قالوا لنا كيف تدخلون حيا تعشش به البلطجة؟، وقالوا إننا لن نستطيع الخروج من هذا الحى، وأن الأدوات التى سنصطحبها معنا ستسرق كاملة، وإن أحدًا لن يستطيع إنقاذنا من أبناء هذا الحى، أغلب تلك التحذيرات جاءت من سكان بعيدين عن زرزارة ولم يسبق لهم دخولها، هم فقط سمعوا عن أهلها ولم يسمعوا منهم، وأمام زرزارة وأثناء سؤالنا عن كيفية دخول الحى، أكد لنا عاملون فى شارع السلام أن كل ما يتردد عن زرزارة كلام عام ومرسل، لا دليل عليه وأن أناسها مسالمون.
«ضع يديك على أنفك، لا تتنفس حتى نبتعد عن هذا المكان».. كانت أول نصيحة لنا من ساكنى زرزارة فور دخول الحى، وجهها لنا عوض الله سيد مختار أثناء تواجدنا فى محيط السلخانة، كانت الرائحة الكريهة نافذة لا يقوى أحد على تحملها، وتزداد فاعليتها فى الصيف إذ تصل إلى مسافات بعيدة لتشكل مع حرارة الجو، وكثرة الذباب، ثلاثيا يدفع سكان المنازل المجاورة للسلخانة للفرار إلى الشوارع البعيدة للجلوس بها بدلاً من الاحتماء بمنازلهم من حرارة الشمس.
تبدأ معالم زرزارة فى الظهور بعد تجاوز السلخانة، الشوارع الرئيسية متشابهة إلى حد كبير، ليست ضيقة ولكنها لا تصلح على الإطلاق لمرور السيارات بها، إذ تتوسطها حفر كبيرة يقال إنها مشقوقة لإدخال الصرف الصحى وتوصيل مواسير مياه الشرب لبعض مناطق الحى، جدران المنازل أغلبها متهالكة، وأسلاك الكهرباء «عارية» فى الشوارع، وبين الطرقات تنتشر طيور وأغنام تتنقل فى ألفة بين السكان المنتشرة نساؤهم على أبواب المنازل، إما لإلقاء بعض المخلفات فى تلك الحفر الواسعة فى منتصف الشارع، أو للقيام بأعمال أخرى.
الوضع الاقتصادى لسكان هذا الحى الذى تعود نشأته إلى أوائل تسعينيات القرن الماضى، يرصده فتحى أحمد، بائع خضار، وفد إلى زرزارة قبل أشهر للعمل فى التجارة بقوله: «الناس هنا غلابة جدًا، بيكحوا تراب، عشان حد يشترى حاجة غالبًا بيبعت ابنه الأول يسأل عن ثمنها وبعدين ييجى يشترى.. الناس بتشترى كميات قليلة، أغلب الموجودين هنا شغالين باليومية وحالهم تعبان جدًا، الناس بتفاصل فى كل حاجة، لكن أنا مش متضايق منهم لأنى عارف ظروفهم».
قطعت فتاة دون العاشرة من عمرها حديث بائع الخضار لتسأل عن سعر كيلو الخيار، ثم أخرجت جنيهًا واحدًا من جيبها وطالبت شراء خيار بقيمته، تلتها امرأة عجوز طالبت شراء طماطم بقيمة خمسة جنيهات ثم قالت له: «أى خدمة». واعتبر «فتحى» الذى عمل بالسياحة فى الغردقة ثمانية أعوام، بين عامى 1999 و2007، قبل أن يتركها بسبب الركود، أن زرزارة تجسيد حى للفساد المنتشر فى المدينة لأن «الغردقة غنية ومليانة فلوس لكن الحكومة مش عايزه تصرف على العشوائيات ومهتمة بحاجات تانية كلنا عارفينها» على حد قوله، ويضيف: «هناك أيضًا تجاهل إعلامى لهذا المكان ولا أحد يسلط الأضواء عليه بالشكل الكافى».
التجول فى شوارع هذا الحى الذى تُعد عشوائيات القاهرة جنة الخلد إذا ما قورنت به، يكشف لك أن غالب الاحتياجات الأساسية للمواطن ليحيا حياة آدمية غير متوفرة على الإطلاق، فمياه الشرب لا تتوفر بانتظام «وهناك أماكن بالحى تصل إليها المياه على أزمنة متباعدة للغاية»، ولا توجد شبكة للصرف الصحى، والطرق غير مهيئة حتى للسير على الأقدام، وشركات الكهرباء تترك الأسلاك عارية فى الشوارع وتضع عليها غطاء بلاستيكيًا ضعيفًا، لا يسمن ولا يغنى من جوع، ولا يوجد مخبز ولا مدرسة ولا حتى متنزه أو مكان يتروّح فيه السكان عدا الطرقات أمام منازلهم، وفضلاً على كل ذلك تطلب الجهات الرسمية من السكان مبالغ باهظة، على حد وصفهم، لنقل نمط ملكية المنازل من وضع يد إلى حق انتفاع، وترفض تملكيهم الأرض.
يؤكد أهالى زرزارة أن مطالبهم المتعددة لتطوير الحى وتوفير الخدمات الأساسية طوال السنوات الماضية لم تلق اهتمامًا من جانب المسؤولين فى المحافظة، أو مجلس المدينة، باستثناء مرات معدودة وقعت فيها أوراق طلباتهم فى أيدى مسؤولين قرروا مساعدتهم على تنفيذ مطالبهم وتحركوا لتطوير الحى «وليتهم ما تحركوا».
تقص أم محمد، إحدى ساكنات زرزارة، محاولات تطوير شارع المغسلة، أحد أبرز شوارع الحى، وتؤكد أن تحرك المسؤولين الرسميين جاء بآثار سلبية للغاية عليهم قائلة: فى عام 2005 وحين كثرت شكاوانا وطالبنا بضرورة رصف الطرق وإدخال الخدمات الأساسية للحى، جاء إلينا بعض المسؤولين لمعاينة المكان وقالوا إنهم لن يتمكنوا من رصف شارع المغسلة إلا إذا تمت إزالة بعض المنازل من أجل شق الطريق وتمهيده، ووافق السكان على ذلك لكنهم- والحديث لأم محمد- حتى يومنا هذا لم يفعلوا شيئًا، ولم يرصفوا الطريق، ولم يتم توصيل شبكة الصرف الصحى إلا لبعض المنازل القليلة، ورغم ذلك لا تعمل أيضًا، وفوق كل هذا لم يحصل السكان الذين تهدمت منازلهم على حقوقهم.
التخلص من الصرف الصحى يستلزم من كل ساكن إحضار سيارات مخصصة لهذا الغرض، وتحصل كل سيارة على 40 أو 50 جنيهًا فى المرة الواحدة، وبعض السكان يقومون بالتخلص من مخلفاتهم ثلاث مرات فى الشهر أو أكثر، فيتحمل كل منهم قرابة 150 جنيها شهريًا للتخلص من الصرف فقط.
يتساءل سكان زرزارة على لسان عوض الله عن السبب الرئيس وراء عدم توصيل شبكات الصرف الصحى للمنازل، على الرغم من قيام الشركات المسؤولة بالبدء فى الحفر والتجهيز قبل سنوات، وتضيف أم محمد: السبب كان الفساد المنتشر فى العهد السابق والذى ما زال حتى يومنا هذا يكافح للاستمرار من أجل استنزافنا.
يذكر الأهالى روايات متعددة فيما يخص إنشاء شبكة الصرف، ويقولون إنهم يتفاجأون بأن العاملين على توصيل الشبكات للمنازل يقومون بين الحين والآخر بتغيير المواسير ويبررون ذلك بأنها تم تكسيرها أثناء قيام شركات توصيل المياه بعملها، وهو ما نفاه محمود صلاح، المشرف على مشروع توصيل المياه للمنازل، والذى تتولاه شركة الشروق للمقاولات، وقال لـ«اليوم السابع» إنهم لم يقوموا مطلقًا بإتلاف عمل الشركات المسؤولة عن توصيل الصرف الصحى.
وأزمة الصرف الصحى فى زرزارة لا تنحصر فى الحديث عن التخلص من المخلفات، والذى يرهق بعض السكان ماديًا، لكن له انعكاسات كثيرة، تبرز فى منازل عديدة بينها منزل يسكنه أستاذ أزهرى يدعى محمد العشرى حيثُ «تطفح الطرنشات على جدران المنزل» على حد تعبير زوجته، مما ينعكس عليهم وعلى صحة أولادهم.
أزمات مثل الصرف الصحى، ونقص المياه، وقطع الكهرباء المتكرر، وعدم رصف الطرق، والتضرر من السلخانة، إضافة إلى عدم وجود مخبز داخل الحى، ولا حتى منفذ توزيع، وعدم وجود مدارس- لا تتصدر أجندة أزمات المواطنين فى هذا الحى، فهم قبل كل شىء يفكرون فى أزمة مستديمة قد تدفعهم لصدام مع الجهات المسؤولة إذا ما لم تُحل بطريقة عادلة، على حد قولهم، وهى أزمة تمليك المساكن التى يعيشون بها.
يخشى سكان زرزارة الذين حصلوا على تلك الأراضى بوضع اليد فى التسعينيات بموافقة من مسؤولى المحافظة آنذاك وبعلمهم، أن يجدوا أنفسهم بين عشية وضحاها مشردين فى الشوارع بلا مأوى.
«هل يُعقل أن يكون سعر تمليك المتر للمستثمرين على البحر دولارًا واحدًا، ويكون سعر المتر فى زرزارة 130 جنيهًا وليس تمليكا ولكن حق انتفاع فقط».. تساؤل طرحته شادية محمد، إحدى ساكنات الحى.
وأضافت: شعرنا بصدمة كبيرة حين طالبنا بتمليك المنازل بسبب ارتفاع الأسعار، إذ يبدأ سعر المتر من 90 جنيها ويصل إلى 130 جنيها على الرغم من أن المحافظة وزعت على المستثمرين آلاف الأمتار بأسعار زهيدة لا تتجاوز الدولارين للمتر الواحد وعلى البحر مباشرة، إضافة إلى أن المبلغ الذى سيقوم كل منهم بتحمله لنقل نمط الملكية من «وضع يد» إلى «حق انتفاع» ستضاف إليه مبالغ أخرى قيمة توصيل الخدمات للمنازل!
تضيف أم محمد إلى حديث جارتها: هناك سكان تربطهم علاقة قوية ببعض المهندسين المتواجدين فى المحافظة نجحوا فى امتلاك منازل مقابل 5 آلاف جنيه فقط، متابعة: «عصر حسنى مبارك لسه ما انتهاش».
ويدلل أهالى زرزارة على تجاهل الجهات الرسمية لمطالبهم خلال السنوات الماضية بالتأكيد على أنهم قدموا اقتراحات لتحويل المحرقة «أرض خربة كبيرة فارغة متواجدة فى مدخل الحى» التى لا يسكنها أحد سوى خفير مكلف بحمايتها إلى مركز شباب، أو مدرسة، أو مخبز، أو غير ذلك، لكن أحدًا لم يستجب لهم، سواء قبل الثورة أو بعدها، اللهم سوى أفراد تابعين للمجلس القومى للشباب- على حد قول خفير المحرقة- جاءوا فى يناير الماضى لتسلم المكان، ثم رحلوا عنه ولم يعودوا.
الطرف الآخر من الحى، تتواجد به منازل يروى أصحابها معاناة من نوع خاص، إذ طالبتهم جهات حكومية بإخلاء منازلهم من أجل فتح طريق يربط شارعى الشوربجى والكهف، ووعدوهم بتعويض فى منطقة نائية وهذه ليست لبُ الأزمة، لأن المحافظة تمنحهم تعويضًا مدفوع الثمن، وفقًا لرواية محمود فوزى، أحد ساكنى هذه المنازل، والذى يؤكد أنه لن يستطيع امتلاك المنزل الذى سيتسلمه من باب التعويض إلا بعد دفع 20 ألف جنيه.
ومن المفارقات أيضًا أن فى أطراف زرزارة توجد أراض بها مساكن فخمة للغاية، يطلق عليها بعض السكان «منطقة الفلول» لأن ملاك الأراضى فيها من قيادات الحزب الوطنى المنحل، على حد قولهم، ووفقًا لرواية عوض الله الذى يسكن فى تك البقعة فإن «هذه الأراضى كانت تمنح لأناس من خارج الغردقة تربطهم علاقات قوية برموز النظام السابق، ويخشى أصحاب تلك المنازل المؤمنة من العودة إليها حاليًا تحسبًا لغضب أهالى زرزارة عليهم بعدما سلبوا جزءًا مهمًا من أراضيهم وانتفعوا بالفساد».
نهاية الحى، فى منطقة خلف زهران، توجد بها مساحات شاسعة لأرض كانت معسكرًا من معسكرات القوات المسلحة، ثم تركته قبل فترة ولم يستفد أحد منه، وطالب أهالى زرزارة من المحافظة حين ناشدتهم الرحيل عن زرزارة لتطويرها أن يتم نقلهم إلى هذا الموقع، لكن أحدًا لم يستجب.
وعلى ضفاف هذا المعسكر تنتشر أكوام قمامة يتم نقلها من الفنادق إلى أطراف زرزارة من أجل تنقيتها وفصلها، على أن تُدفن خارج الغردقة فى المقالب المخصصة، وبالفعل تتم تنقية القمامة لكنها لا تُدفن خارج المدينة، بل تُترك مكانها ليتنسم أهالى الحى عبيرها صباح مساء.





