حين سمعت لأول مرة مقولة الشيخ الإمام محمد عبده التى قالها بعد عودته من بلاد الفرنجة (فرنسا) تركت هنا إسلاما بلا مسلمين لأجد هناك مسلمين بلا إسلام، لم أدرك المعنى الكامل والحقيقى وراء الجملة التى تقطر حكمة، فليس المقصود هو ما فهمته وقتها وما يفهمه البعض ويركز عليه من بسيط التعاملات من الاستقامة والنظافة وحب العمل والحرص على الإتقان والكثير من المسلمات التى نص عليها ديننا وتجاهلناها بقصد وعن غير قصد، بل إن الصدق هو الذى أوصل هؤلاء القوم إلى ما وصلوا إليه.
فالصدق أولا مع النفس ومن ثم مع الآخرين هو الطريق الوحيد لإيجاد صيغة تصالحية تجعل من المجتمع مجتمعا ناجحا ومتميزا مجتمعا متقدما، وأنا لا أزعم أن تلك المجتمعات الغربية هى مجتمعات مثالية بالكلية بل على العكس هى مجتمعات ينقصها أشياء لتقترب من حد المثالية لكنها فى المجمل ولأنها تركز على بعض دعائم النجاح والتفوق فإنها تحقق هذا بكل بساطة ورغم افتقار تلك المجتمعات ظاهريا للعاطفة إلا إنها تقدر تلك الخصوصية الإنسانية بشكل رائع خاصة إذا ما تم هذا بعيدا عن ميدان العمل والتنافس وتأمين لقمة العيش.
المجتمعات الغربية متميزة نسبيا، ودون أن يسارع أحد باتهامى بالتحيز الأعمى أود أن أعقد مقارنة بين بعض المواقف هنا وهناك وليس الهدف من هذا التقليل من شأن ثقافتنا أو ازدرائها بل الهدف أن نحاول أن نتعلم ونأخذ الأفضل من تلك المجتمعات ونضيفه لما لدينا لنصبح الأفضل والأعلى شأنا بما نملكه من أسس دينية وأخلاقية لو تبعناها لما شقينا لكن والحال إن بعضنا يأبى أن يعترف بأن العودة لتعاليم الدين القويم هى حجر الزاوية لتقدمنا وارتفاع رايتنا فأننى مجبر على سلوك الطريق الأطول والأصعب لتبيان وتوضيح بعض الحقائق التى ربما تغيب عن البعض، وإذا كانت مناحى الحياة ترتكز على العمل والعلاقات الإنسانية فلعلى أوضح من خلالهما مقصدى، فيما يخص العمل فإن القواعد التى وضعت بعناية وعدالة وتطبق بكل حزم جعلت من السواد الأعظم فى تلك المجتمعات موظفين وعمال بل ومدراء منضبطين فليس هناك (معلش) أو (ايش عليك) (اوتمون قلبى) التى تنتشر فى أصقاع الأمة العربية من المحيط للخليج بل هناك مبدأ الثواب والعقاب الذى يطبق بوعى وحرفية وشدة وبلا هوادة أو رحمة وهذا وإن كان ظاهرة مزعج إلا إن الحقيقة التى تكمن ورائه هى ألا مكان إلا للمجتهد والمثابر الذى يحب عملة ويتفانى فيه، ولا مكان للعاطفة أبدا وهذا يوجد الفرق الكبير بين نجاحات الشركات والمؤسسات هناك وبين نجاحات شركاتنا ومؤسساتنا المحدود هنا.
فيما يخص العلاقات بين الأفراد فهو ينقسم إلى شقين الأول لعلنا أدركناه من خلال تحدثنا عن العمل والنجاح فيه فيما سبق، والشق الأكثر تعقيدا هو العلاقات الإنسانية بين الأفراد على المستوى الشخصى، ونحن نلمح من خلال دراستنا ومتابعتنا للمجتمع الغربى إن العلاقات تتسم بالسلاسة وأن الصدق هو ديدنها والبساطة عنوانها، فأنت لا ترى أبدا ما تراه فى المجتمعات العربية من فرض بعض الأشخاص لأنفسهم على فرد أو مجموعة معينة، وخجل هذا أو هؤلاء من البوح بمشاعرهم تجاه هذا الشخص غير المقبول، أيضا ترى أن اختيار الرفيق أو الصديق به قدر كبير من الحرية والمرونة، ويتبع ذلك إنهاء صداقة ما بين شخصين بكل بساطة ودون إرهاق نفسى، بمجرد أن يكتشف أحدهما أنه غير مهيأ لمتابعة تلك الصداقة لأى سبب كان، والجميل أن الطرف الثانى يتقبل ويتفهم هذا بلا حرج أو غضب.
أيضا فيما يخص العلاقة بين الرجل والمرأة هناك ثوابت رائعة وهى وإن اتخذت شكلا مغايرا إلا أن أصلها موجود فى ديننا لكننا خلطنا بين الأعراف والتقاليد والدين فلم يعد هناك حد فاصل، المرأة هناك لا تجد غضاضة فى مصارحة الرجل بحبها، ومن ثم تطبق أعلى حالات الشفافية حين تتفق هى وزوجها على الانفصال حال استحالة استمرار الحياة بينها بلا ضغينة بل ونرى اتفاقهما بكل أريحية على تقاسم تربية أولادهما أن وجد لهما أولاد، وهذا جوهر العلاقة التى صاغها ديننا الحنيف (إن يتفرقا يغن الله كل من سعته) لكن نحن نصعب الأمور ونتعالى على الله ونفرض قيودا، هى قيود مجتمعية فى الأصل وطبقا للعادات وما أنزل الله بها من سلطان، فنخلق أسرا مفعمة بالأمراض المجتمعية وأشخاص مثخنين بجراح نفسية عميقة يساهمون بما يحملوه من غضب فى إفساد المجتمع.
الصدق الذى تحدثت عنه فى بداية كلامى هو الذى يحمل هؤلاء القوم على اتخاذ تلك المواقف والعيش بحرية بعيدا عن قيود نضعها بأنفسنا ثم نعانى منها دون أن نفكر ولو للحظة فى الفكاك منها أو إصلاح أضرارها رغم وضوح السبب والنتيجة، كم من الأسر التى عاشت وتعيش وهى ترزخ تحت نير الخوف من مخالفة السائد والمتعارف عليه دون أن تفكر فى إصلاح العلاقات فيما بينها سواء بالصدق من النفس وإبراز المشاعر الحقيقة أو الصدق مع الآخرين ممن تربطهم بهم علاقة ما، وهذا الصدق الذى ربما أدى إلى الطلاق لهو أهون ألف مرة من العيش كارهين ومكرهين.
كم من الأشخاص يستطيع أن يتخلص من ربقة الرعب التى تسكنه ويواجه ذاته والمحيطين به بصدق مشاعره فيخلص نفسه من عذابات تؤرقه وتقضى على حلمة بالعيش فى سلام مع نفسه ومع من حولة؟ كم منا يستطيع أن يكون أكثر صدقا ووضوحا فيصارح شريكه فى العمل أو فى الحياة بمشاعره، ويستطيع أن يتحمل نتائج تلك المصارحة وهذا الصدق؟ ولو أدى صدقة إلى فسخ الشراكة أو الطلاق بينة وبين شريك حياته، ربما قد تؤلمنا النتائج فى حينها، لكنى على يقين بأن الراحة والسعادة التى ستتبع هذا لهى خير عوض عن مكابدة العيش بلا صدق مع النفس ومع الآخرين.
