عبد الرازق أحمد يكتب: جدارية الخوف‎

الخميس، 16 فبراير 2012 12:23 ص
عبد الرازق أحمد يكتب: جدارية الخوف‎ صورة أرشيفية

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
كان أول درس رضعناه مع حليب الطفولة أن خوف السقوط أعظم المشاعر السلبية التى منحنا إياها الإله، فكبرنا ونحن نعرف للخوف فضله، وللحيطة قدرها. وحين أمسكت أيادينا المرتعشة بأول قلم، علمونا أن بعض الخوف من حسن الفطن، فآثرنا على حداثة أفهامنا أن ننهل من الفطنة قدر المستطاع فلا يسبقنا إلى الخوف أحد.

وحين كنا نلهو كنا نجيد لعبة الاختباء خلف أى جدار أو تحت أى طاولة، وكأن الخوف والانزواء لكنة من أبجديات التراث.

تعلمنا أن للحيطان آذان وللسلطان عسس وللضابط آلاف البصاصين، فكبرنا ونحن ننظر خلفنا وكأننا مطاردون من كل هبة ريح أو زخة مطر. وكنا نعدو أمام كل كلب وإن كان جروا لا تحمله قوائمه. كنا نرى فى كل قط أسود عفريتا، وفى كل خرابة بعضا من مردة الشياطين، وكانت شياطين خراباتنا بكل ألوان الطيف، فمنها الأحمر والأخضر والبرتقالى. هكذا كبرنا ونحن نحمل آلاف الهزائم دون أن ندخل مع الحياة معركة واحدة.

كان الحائط يلتصق بما تيسر لنا من أسمال لا تكاد توارى رضانا بالمقسوم والصبر على الشدائد، وكنا نربط على بطوننا الخاوية أحجار القناعة. وتعلمنا أن نصبر على جار السوء حتى يرحل. ولكنه لم يكن أبدا يرحل، بل كان يزداد صلفا كل لقاء، وقلة ذوق مع كل انحناءة. كنا نشترى رضاه بالبسمة والمداراة وقلة الحيلة، وكان يشطط فى انتزاع كل ما لدينا من مروءة على مرأى من كل عين كانت تكن لنا شيئا من الاحترام.

كنا فى عرينا ننام على أى رصيف من أرصفة القهر، ونمضغ أى حلم يصبرنا على مسغبة الآلام ويؤملنا فى أى نهاية لظالم لم نعرف الفكاك من خوفه. وكنا نقرأ عنترة العبسى ونشاهد أمير الانتقام ونستمع إلى حكايا أبلة فضيلة لننفث عن بعض مكبوتاتنا، لكننا لم نكن نزداد أى فضيلة، بل كنا نرتد بعد كل هروب أشد ضعفا وأقل حيلة.

كنا نعلم من كتب المحفوظات أن للظالم نهاية، بيد أننا كنا نراها بعيدة بعد المشرقين. وكنا نعرف من الدين وكتب التاريخ أن الأرض يرثها عباد الله المخلصين، لكننا كنا نهزأ فى دواخلنا من محفوظاتنا، ونرى أن انتصار زيمبابوى على أمريكا فى حرب النجوم أقرب من سقوط أى تمثال للعبودية فى أى ميدان من مياديننا الواسعة.

كنا نجلس على المقاهى نتبادل النكات البذيئة والسباب ولفائف التبغ وبعض الصور الماجنة من الصحف الصفراء حتى يحين آذان الخوف، فيهرع كل واحد منا إلى بيته وهو يحمل أكياس الرعب إلى عياله ويغلق جلده عليه.

وحين أتانا ذات يوم شاب غريب ليتخذ بيننا مجلسا على طاولة القهر دون أن يتعاطى حبوب الخوف، ودون أن تصطك أسنانه أو تخونه مفاصله كلما ذكرنا مارد الرعب الذى على التسبيح بخوفه كنا ننام ونصحو، حين بشرنا الغريب بموسم حرية ونهار تسطع فيه الشمس دون ارتباك، كنا نراه يهذى ويخرف بما لا يعرف. كنا ننصحه باتخاذ الحيطة والتزام الصمت باعتبارنا الأكبر سنا والأكثر حكمة. كان يعرى خوفنا بضحكاته الهستيرية كل لقاء، ويدعونا إلى الوقوف على قبور مخاوفنا وإن لحظة حداد واحدة. لكننا كنا معجونين بملاط الحيطة، فلم يفتّ كلامه فى جدران عبوديتنا.

وذات فجر قرر الشاب أن يمسك بمارد الرعب من ذيله ويطوحه فى فضاء مخاوفنا، لكننا حرمناه متعة المشاهدة والتزمنا بيوتنا. سمعنا فارس الليل يصهل: "يسقط! يسقط!" فسقطت قلوبنا فى أحذيتنا الرخيصة ووضعنا أيادينا فوق رؤوسنا فى انتظار الكارثة. لكن مارد الخوف مات، ونادانا الفارس بضحكته الهستيرية وصوته الرخيم أن اخرجوا فقد ذهب خيال المآتة إلى غير رجعة.
حينها نظرنا من شقوق أبوابنا البالية، وفركنا عيوننا التى غشاها سحاب الترقب، فرأينا مارد الخوف مطروحا على قارعة الطريق غارقا فى صمته الأبدى. لكن أيادينا المرتعشة لا زالت غير قادرة على تحريك ألواح أبوابنا المتهالكة خشية أن يكون موت المارد إغماءة أو حيلة أراد منها أن يفتك بنا جميعا. لا زال الفارس يصرخ فى جوف الليل ولا زلنا نهدهد إلى جوار أبوابنا المغلقة تراث الخوف وننتظر.





مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة