معصوم مرزوق

بلد نجيب محفوظ

الأربعاء، 15 فبراير 2012 10:11 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
وكنت قد استخدمت فى الكثير من مقالاتى عبارة لـ"بريخت" يقول فيها: "إن الحديث عن الأشجار يوشك أن يكون جريمة، لأنه يعنى الصمت على جرائم أشد هولاً"، وما زلت أرى ذلك صحيحاً إلى حد كبير، خاصة فى الزمن الذى تشابه فيه البقر على الناس، تماماً مثلما تشابه الناس على البقر!!، ولكن لا بأس من الصعود فوق الشجرة من حين لآخر، خاصة أن تراثنا البديع يغنى أغنية شعبية طريفة تقول بعض كلماتها: "يا طالع الشجرة، هات لى معك بقرة!!"، بما يؤكد أن موضوع الشجر والبقر له دلالات خفية وإشارات ذات معنى لأولئك الذين يرون أن للألفاظ معنى ودلالة.

والعمل الفنى أكثر خلوداً من أى عمل آخر، فالأهرامات أمامنا حتى اليوم، ولكن أين الملوك الذين أمروا ببنائها؟، والفنان فى أى عصر هو ضمير المجتمع الإنسانى الذى يعيش فيه، هو خلاصة ثقافة العصر والمجتمع، وهو بشكل ما "زرقاء اليمامة"، التى يمتد بصرها إلى ما وراء المرئى القريب، وكلما تفاعل الفنان مع مجتمعه وعاش فيه ومعه ومن أجله حتى النخاع، كلما زادت قيمة أعماله الفنية، وهذه هى التوليفة التى أخرجت أعمال مبدعنا العظيم نجيب محفوظ، الذى وصلت كلماته إلى الملايين بأغلب لغات الأرض.

لن أنسى ذات يوم أثناء وجودى فى مونتفيديو حين هتفت إحدى الفتيات: "أنت من بلد نجيب محفوظ.. أنت محظوظ!!"، لقد أدهشنى أنها لم تقل مثلاً إننى من بلد الأهرامات، أو النيل، أو من بلد سعد زغلول، أو عبد الناصر.. فهى قد عرفتنى وعرفت بلدى عن طريق "نجيب محفوظ".

لقد كان "بريخت" يعنى فى عبارته التى استعرتها كثيراً، أن "الفن" قد لا يكفى فى أزمنة معينة، أى أن "اللغة غير المباشرة" لا تحتملها بعض المواقف، وأن الحديث عن "الأشجار" قد يكون جريمة، إذا كان يعنى الصمت على جرائم موت الناس جوعاً مثلاً.. هل يستسيغ أحد الغناء فى سرادق للعزاء؟!.

إلا أن ذلك يثير، من ناحية أخرى، إشكالية علاقة "الجمال" بالأزمة، حيث قد يرى الكثيرون من ناحية أن الفن له دوره الترويحى للبشر، وأنه علاقة جدلية بين عبقرية الفنان وتراثه الجمالى وبين الطبيعة لا أكثر ولا أقل، وقد تبسط البعض وأطلقوا على ذلك عبارة: "الفن من أجل الفن".

ومن ناحية أخرى، قد يرى الكثيرون أن الفن له وظيفة اجتماعية تتجاوز مجرد التذوق الفنى، والفنان يحمل رسالة تجاه المجتمع الإنسانى الذى يعيش فيه، ويصل البعض من أنصار هذا التوجه إلى أن الفن يجب أن يكون تحريضياً محفزاً نحو الأفضل، أو منحازاً إلى الأضعف والأقل حظاً.. وتوالت النظريات التى تؤسس لهذا وذاك، فتارة رومانسية وتارات أخرى واقعية، وما بعد واقعية وتكعيبية.. إلخ.
إن الفنان يمكنه، عن طريق إبداعاته، أن يحقق ما يعجز عنه الخطباء والبلغاء من أهل السياسة والاجتماع، حيث إن العمل الفنى يشق طريقه بسهولة إلى وجدان المتلقى، يعيد تشكيله من جديد، يوقظ فيه إحساسه النائم، يحرك فيه زلزال الجمال الذى لا يطيق القبح أياً كان شكله أو موضوعه.. إلا أنه يجب أن نستدرك على الفور بأن ذلك يتوقف على اللحظة التاريخية التى يمر بها أى مجتمع إنسانى، فإذا كان هذا المجتمع قد وصل إلى لحظته التاريخية الحرجة، ووقف حائراً عند مفترق طرق، فإن المثقف بوجه عام، والفنان بوجه خاص، يجب أن يوظف كل طاقاته الذهنية وخبراته المخزونة من أجل أن يشير بوضوح وصدق إلى الطريق الصحيح، بدون مداورة أو مراوغة تزيد التيه تيهاً، أو تقود الناس إلى الضياع.

ما أصعب الحياة على الفنان فى زمن الفتنة، فهو إن اكتفى بالإبداع قتله شعوره بالإحباط لعجزه عن التغيير، وهو إن اتخذ موقفاً قتله من وقفوا على الناصية الأخرى، وهو إن صمت وسكن صار جثة باردة، إنه مقتول فى كل الأحوال، وبالتالى فليس لديه سوى حرية الاختيار بين أنواع موته المحقق.. والموت المعنوى هو أبشع أنواع القتل!!.

أما وقد تشابه البقر على القوم، فلا مناص من الجلوس فوق الشجر وقذف السائرين بالطوب وممارسة العبث، فلعل إنسانا يرفع رأسه فى هذا الزمن الجلوبالى ويفكر، لعل إنسانا يكتشف أن العالم قد صار على شفا جرف هاو، فيلتفت ويحذر، وربما سمعه أحد فى ضجيج الزحام والعبث.

إن ينابيع الفن تجف حين تنتحر المعانى، ويصبح الإبداع قريناً للعنقاء والخل الوفى ممتنعاً إلى درجة الاستحالة، ويتحول الفنان إما إلى بهلوان فى بلاط السلطان، وإما إلى نزيل فى مصحة عقلية أو زنزانة، شارداً يقرض أظافره فى انتظار الذى لا يجىء، مثله مثل الآخرين.








مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
التعليقات 6

عدد الردود 0

بواسطة:

محمد عبد الله

هل يتعظ الخلف

عدد الردود 0

بواسطة:

خالد الشيخ

الفن والابداع أقوى من الخلف والسلف ....

عدد الردود 0

بواسطة:

حسوبة

أرحمو برخيت

عدد الردود 0

بواسطة:

حسوبة

أرحمو برخيت

عدد الردود 0

بواسطة:

ياسر

الله يرحم مدرسين الفلسفة

عدد الردود 0

بواسطة:

ياسر

الله يرحم مدرسين الفلسفة

اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة