فى البداية أنا لست إلا إنسانا بسيطا، وأنتمى وأفتخر لطبقة مساكين هذا الشعب الذى عانى من القهر والإهمال والتهميش على مدى سنوات العمر، واختارنى ربى لأحمل أنبل الرسالات الإنسانية وهى رسالة الطب لأكون سببا فى رفع المعاناة عن المرضى المساكين مثلى، بالرغم من البؤس الذى وصلت إليه مستويات الخدمات الصحية فى بلادى.
وصلتنى اليوم رسالة من إحدى الطبيبات التى تعمل كطبيبة تكليف فى إحدى وحدات الرعاية الأساسية بمحافظة كفر الشيخ منذ سبعة أشهر فقط بعد تخرجها، هذه الرسالة وصلتنى على صفحتى على فيس بوك من ابنة وزميلة تعانى من إحباط شديد ويأس وفقدان للأمل، وأنا لا أملك من الأمر شيئا إلا أن أحاول توصيل صرختها ربما يقرأها أو يسمعها أى مسئول فى هذا البلد أو فى وزارة الصحة المصرية الميمونة.
واسمحوا لى أن أكتبها بالحرف الواحد كما وصلتنى، تقول الطبيبة بالحرف مايلى: "السلام عليكم، أنا طبيب تكليف وأفكر فى استكمال دراساتى والحصول على شهادة الزمالة فى مجال طب الأسرة، ولكننى متخوفة ومحبطة بعد ما رأيته فى بداية حياتى العملية فى إحدى وحدات طب الأسرة فى مركز الحامول محافطة كفر الشيخ، واكتشفت أن الطب فى مصر حالته يرثى لها وسبب إحباطى ما اضطررت للتعامل معه بعد التخرج، وخاصة أن حلمى وطموحى لم يتعد أملى فى تقديم خدمة أفضل وأعامل المريض بما يستحقه ويشكل آدمى وللأسف هذا الحلم شبه مستحيل ومحتاج سنين طويلة لإعادة بناء منظومة أصبحت لاحل لها إلا نسفها بالكامل وإعادة بنائها من جديد. بصراحة إحنا جيل جديد من الأطباء مش ممكن بقدر يصبر على الظلمة إللى عشنا فيها طول عمرنا ومحتاجين للنور والأمل بأقصى سرعة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. أنا شغالة فى وحدة صحية أنا الطبيب الوحيد فيها منخفضة عن مستوى الأرض ومياه الشرب مختلطة بالمجارى وشبكه الصرف الصحى شبه مدمرة والوحدة عبارة عن مستنقع لأنها أوطى من الخارج وكل شويه المجارى بتبوظ وتصبح الوحده بحيرة عائمة فى مياه المجارى ده مبدئيا وده طبعا أبعد ما يكون عن مكان للحفاظ على الصحة ده طبعا غير الحاجات اللى بنشتريها على حسابنا لأنها مش متوفرة إللى أقلها بلاستر وشاش وقطن عشان الغيارات وطبعا الأدوية إللى موجودة غالبا لا تسمن من جوع فمعظم الوقت الناس بتكمل العلاج على حسابها من الخارج وأنا دورى أنى أتاسف وأعتذر وأطبطب على الناس وأحزن على وضع الناس وعلى دورى فى منظومة فاسدة وفاشلة إحساس مميت بالعجز يا دكتور كل يومين المجارى تبوظ وأبعت لرئيس القرية وييجو يحاولون ويقولولى أصل شبكة المجارى أوطى من بره فطبيعى أن يكون الوضع كده، واشتكيت للإدارة والمديرية ومكتب المحافظ وإللى حصل كان تفتيش أكتر عليا مكل يوم من الصبح بدرى كعقاب عشان بتكلم كتير لكن المحصلة صفر. لما بيجيلى مرور وتقييم بيقولولى العلاج اللى يخلص من دولا بالطوارئ تجيبيه على حسابك وده إللى بيحصل فعلا من مرتبى أول كل شهر عندى أدوية مش بحتاجها وقلتلهم مش بنستخدمها ويجبرونى أن أخدها قهرا ولازم قبل مايخلص تاريخ صلاحيتها أعدمها وأسجلها فى الطوارئ بأسماء حالات وهمية على أنها استخدمت مع أن الحاجات دى أكيد بيحتاجوها فى الطوارئ لمرضى آخرين فى أماكن أخرى وهم أولى بيها ولما قلت لدكتور التقييم قاللى الخلاصه لو جيت لاقيت عندك حاجة منتهية الصلاحية هعملكم مذكرة وهتاخدو جزاءات اتصرفوا وإلا هتروحوا فى داهية، أستحلفك بالله يادكتور أنت زميلى وزى والدى انصحنى أعمل إيه".
طبعا أنا لا أملك من الأمر شيئا إلا أن أطالبها بما تعلمناه من رب العزة عندما قال "يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله" صدقت يا ربى ولا ملجأ لنا إلا أنت. ولكننى وعدتها أن أحاول أن أصرخ معها بأعلى صوتى باكيا على حالنا فى مصر فى هذه المقالة.
كل ما أتمناه أن تصل هذه الصرخة إلى أذان كل المسئولين فى وزارة الصحة التى نعلم تماما أنها مجرد وزارة دمرها المخلوع وكل وزرائه الميامين. وأتمنى من الحكومة الحالية التى نعتبرها حكومة ثورة أن تهب وتنتفض لإصلاح منظومة الصحة بشكل سريع ومتكامل وأعتقد أن صحة المواطن المصرى هى أول الأولويات وتحتاج إلى بيئة عمل مناسبة والاهتمام بعناصرها البشرية المحبطة.
من على هذا المنبر الحر أصرخ بكل قوة وللمرة الألف وأتساءل أليس من حق الطبيب أن يتوقف عن تقديم خدمة طبية غير إنسانية وغير آمنة فى بيئة أصبحت مصدرا وعاملا من عوامل انتشار المرض ومضاعفة معاناة الناس؟ نقص فى العلاج والمستلزمات وانعدام النظافة ونقص للعمال وتهالك المبانى ونقص الأجهزة وضعف الإنفاق على الصيانة وإهمال التدريب للعاملين والأطباء وفوق كل ذلك قيادات أغلبها فاسدة فى أغلب المستويات الإدارية وجلست على الكراسى أما الواسطة أو الرشوة التى شاعت فى النظام البائد. كما قالت الابنة الطبيبة منظومة لا حل لها إلا أن ننسفها ونعيد بناءها. هل سيسمعنا أحد هل سيستجيب أحد وإلى متى نتحمل ونصبر على هذا الظلم وهذه الظلمة. عاشت بلادى حرة مستقرة.
مستشفى - صورة أرشيفية
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة