الصراع الدائر فى مصر، لا ينبغى النظر إليه من الخارج أو تناوله فى ظاهرياته، فالقول إنه صراع سياسى قول منقوص، فليس هو على شاكلة التنافس والصراع السياسى الموجود بين الديمقراطيين والجمهوريين فى الولايات المتحدة، أو بين الحزب الديمقراطى الاجتماعى والحزب الديقراطى الحر أو حزب الخضر فى البوندستاج الألمانى، أو بين العمال والمحافظون فى بريطانيا.
فالحالة المصرية لم تصل بعد إلى الاستقرار التى تتطلبه حياة سياسية ناضجة ورشيدة، فالمصريون لديهم إرث من المخاوف والتخويفات السياسية منذ عهود سحيقة وليس على مدار الجمهورية الأولى التى أسسها عبد الناصر، مما أدى إلى تكوين صراع هو بالأساس صراع طبقى، أكثر منه سياسى.
فالفئة التى تنادى بدولة مدنية حديثة ترى أنها تعبر عن طبقة هى بالأساس طبقة المثقفين متوسطة الدخل، وهذا يتبين لك فى كل مسيرات وتجمعات هذه التيارات. أما الجبهة التى تتخذ من الدين منطلقات لحراكها السياسى ترى أنها تمثل الطبقة الفقيرة التى اشبعتها الرأسمالية فقرًا وعوزًا، كما أن زخم العمل السياسى لهذه الفئة يبرز بين القواعد الشعبية البسيطة لسهولة التأثير عليهم ولوجود النزعة الدينية قوية لديهم. على الصعيد الآخر نجد أن أصحاب الياقات البيضاء أو الطبقة المثقفة المتوسطة الدخل لديها مخاوف وشكوك جمَّة فى قدرة التيار الدينى على استيعاب دوائر تطوير المجتمع والانتقال به إلى الحداثة، خاصة أن الحراك السياسى للتيار الدينى وطرق جدالاته بعيدة عن حلقات المعامل العلمية والمكتبات ودوائر البحث والتنظير الفلسفى والأنساق الأدبية والأشكال الفنية، وتدور كل اصطلاحاته وتنظيراته إذا وجدت فى المناحى الدينية الصرفة.
ومن هنا تنتقل حلقة الصراع من صراع أيديولوجى إلى صراع طبقى لا تتمثل فيه طبقية نمطية (وهى الطبقية الاقتصادية القديمة) فحسب بل تنشأ عنه طبقية فكرية وعلمية وثقافية. ويظهر هذا جليًا فى عمليات حشد مواطنين بسطاء من قبل التيار الدينى، وبمراجعة بعض اللقاءات معهم، يتبين لك أنهم لا يدرون شىء عن طبيعة وأصل الجدل والصراع الدائر، هم على أقصى تقدير لديهم معرفة سطحية عن عموميات المسألة برمتها، كأن يقولون عن التيار الآخر أنه تيار علمانى لا يريد الدين. ومن هنا يظهر أنه حتى العموميات التى يكون لديهم معرفة ضحلة عنها هى عموميات مغلوطة ومشوهة، تعمل النخبة الدينية على تكوينها لديهم.
ومن هنا يتخوف التيار الآخر أكثر على المستقبل الحدثوى لبلد عريق كان عليه أن يستبق دولاً أخرى فى الحداثة، ومن هنا نقول أن الصراع هو صراع حدثوى أصولى، يخشى فيه الحدثويون على مستقبل الوطن ويخشى فيه الأصوليون على ماضيه السحيق، وبين سندان هذا ومطرقة ذلك يضيع حاضر الوطن.
لا شك أن الوطن مأزوم وسيظل لفترة زمنية غير محددة، خاصة أن هناك تأثير خارجى واقع على تيار ما، لديه طموح خارجى أكثر مما لديه للداخل، ولا شك أنه ومن واقع درس التاريخ دائمًا ما يفشل فى إصلاح الجبهة الداخلية من يشتت جهوده خارجيًا ويعول داخليًا على فئات ليست على دراية كافية بطريقة تكوين المجتمعات الحديثة وصناعة الديمقراطيات، التى تحتاج إلى بيئة تعليمية وأدبية وثقافية معينة. ولذلك الرهان الحقيقى هو مدى التحول العلمى والفكرى الذى سيحدث فى الوطن، والعلماء والأدباء هم المنوط بهم خلق الحركة التنويرية والعلمية هذه، ومن ناحية أخرى مدى استجابة الفئات غير المتعلمة لذلك. وأظن أن النخبة الدينية ليست من مصلحتها وجود هذا الحراك العلمى والأدبى، بل وستحاول محاربة هذا بأسانيد من الدين، تمامًا هو نفس الصراع الذى حدث إبان عصر النهضة والتنوير فى أوروبا. والنتيجة الحتمية هى انتصار العلم والفكر والأدب واحتوائهم للمتدينين دون المساس بأى من حقائق الدين وثوابته وأصوله، مثلما احتوى العلم والحداثة الكنيسة الغربية، وأصبحت تتماشى والعلوم والفنون بل وأصبحت منبرًا للفنون والعلوم والبحوث، إذ كانت أمام خيارين إما أن تظل على عنادها فينصرف عنها البشر وتفقد وجودها أو أن تغير من طريقة تفكيرها وتصبح محجة البشر يؤمونها على مختلف مشاربهم. فلا سبيل سوى العلم وأن ننتقل من مرحلة الانغلاق ووضع القيود إلى عالم متعدِّد، عالم حر متغيِّر، عالم متطور متنور، عالم لا تحدَّه الأفق الضيقة يسعى حثيثًا نحو منابع الضوء يخطو ظافرًا على هدى نسيم الحرية.
أمجد رفعت يكتب: الوطن.. بين الصراع السياسى وسياسة الصراع
الجمعة، 07 ديسمبر 2012 11:02 ص
صورة أرشيفية
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة