كانت لحظات تجلت فيها العبقرية المصرية التى أبهرت العالم كله فى 25 يناير2011م، حبنما انصهرت كل القوى الفاعلة فى بوتقة ميدان التحرير لمدة 18 يوما، مطالبة بإسقاط نظام أجمع العالم كله على وصفه بالاستبداد، حيث رئيس قبع على صدور الشعب لعدة قرون واستأثر بالسلطة هو وحزبه الفاسد الذى زور كل شىء تحت بطش آلة أمنية انتهكت الحرمات والقوانين وأذلت أبناء الشعب.
فى لحظة عبقرية مصرية خالصة تميزت بالسلمية استطاع الشعب خلع رؤوس هذا النظام ووقف مهزلة التوريث، بهذه اللحظة العبقرية دخلت مصر مرحلة انتقالية خطيرة تميزت بقيام فلول النظام بثورة مضادة استخدمت فيها كل الوسائل لإحداث فوضى، بأموالهم القذرة التى نهبوها وأطلقوا علينا جيوش من البلطجية تحرق وتقتل وتدمر وتنتج أزمات تلو الأزمة بطريقة ممنهجة ومدروسة وربما تنال مباركة من أعداء مصر بالخارج.
كل ذلك حدث فى جو من الاستقطاب السياسى فى الشارع المصرى وتخبط فى إدارة البلاد سياسيا من قبل المجلس العسكرى الذى لا قبل له بأمور السياسة.
خرج الشعب بالملايين للاستفتاء على التعديلات الدستورية واختيار برلمان منتخب يطرقة ديموقراطية ونزيهة وكذلك مجلس الشورى بالرغم من الأمواج الهادرة للاحتجاجات الشعبية المشروعة فى عمومها، والفوضى والبلطجة ومحاولات تعطيل المسيرة الديموقراطية من قبل الثورة المضادة.
وفى تطوير سريع لا يتمشى مع الحس الوطنى خرجت علينا المحكمة الدستورية بحكم يبطل انتخابات مجلس الشعب ويعتبره عدم فى سابقة لا تتمشى مع طموحات ورغبة الشعب فى الخروج من عنق الزجاجة.
كلنا نحترم القضاء ونقدس أحكامه ولا نشكك فى نزاهته ووطنيته ولكن الحكم كان صادما للشعب، لأنه جاء خاليا من أى موائمة سياسية، وخاصة أن القرار صدر فى لحظة فارقة فى حياة الشعب المصرى وهى لحظات اختيار أول رئيس مصرى بالانتخاب الحر المباشر لأول مرة فى التاريخ.
جاء الحكم فى لحظة انقسام خطيرة إما أن نختار رئيس من فلول النظام أو رئيس من التيار الإسلامى.
أصبح الشعب بين خيارين إما إعادة إنتاج النظام المخلوع وإما القبول بحكم التيار الإسلامى وما يصاحبة من هواجس.
بالضبط تماما أرادت الدولة العميقة والنواة الصلبة التى أسسها المخلوع على مدى عقود أن تقول للشعب إما نظام مبارك وإما الحكم الإسلامى الإخوانى تماما كما قالها مبارك للعالم إما أنا أو الإخوان.
فى لحظة عبقرية أخرى اختار الشعب رئيسه من خارج دائرة النظام المخلوع وعبر الشعب هذه الأزمة الخطيرة وأذكركم بلحظات إعلان النتيجة، حيث خلت شوارع مصر من الناس إلا من دبابات الجيش وجلس الجميع أمام الشاشات ليسمع النتيجة والجميع يحبس أنفاسه إما رجل مبارك وإما رجل الإخوان.
وفى هذه اللحظة العبقرية وقف الشعب مع الثورة وأسقط رجل مبارك الذى كاد أن ينجح فى لم شمل الفلول الضالة، ومعهم للأسف بعض الرافضين لحكم الإخوان.
وصلنا إلى طريق شبه مسدود رجالات النظام السابق الموجودين ومازالو قابعين فى جميع مفاصل الدولة يشككون فى شرعية الرئيس ويطلقون الإشاعات ويهددون بحل المؤسسات المتبقية ومنها مجلس الشورى والجمعية التأسيسية وبدأت المحاولات مرة أخرى بتهديد هيبة الدولة والاعتداء على المؤسسات الأمنية.
كان لابد من فتح الطريق إما بالحوار أو باتخاذ قرارات سيادية تبدو وكأنها بفرض أمر واقع على الشعب.
ولما كانت لغة الحوار فى ديموقراطيتنا الوليدة غائبة ومفقودة فكان الإعلان الدستورى.
بغض النظر جاء الإعلان الدستورى يحمل شبهة الانفراد والدكتاتورية ويحمل شبهة اعتداء وتغول على السلطة القضائية.
واهتزت الأرض تحت أقدام الشعب فخرج من يرفض وخرج من يوافق على الإعلان الدستورى فى مظاهرات تؤيد وأخرى ترفض. ازداد الاستقطاب والانقسام وكثرت اللاءات والتهديدات المتبادلة.
فى هذا الجو الملىء بغيوم الانقسام والتصعيد يوما بعد يوم خرجت المسودة النهائية للدستور وأصدر الرئيس المنتحب قرارا بدعوة الشعب إلى الاستفتاء ولا ننكر أنه صدم معارضى الإعلان الدستورى ونال رضا مؤيدى الرئيس فازدادت البلة طينا وارتفعت نبرات التصعيد والتهديد التى وصلت إلى تهديد القضاة بعدم الإشراف على الاستفتاء ووصلت إلى منع قضاة المحكمة الدستورية العليا من ممارسة أعمالها فى سوابق خطيرة لم تعرفها مصر حتى فى عهود الظلام.
هناك أوهام تتلخص فى محاولات التشكيك فى شرعية الرئيس المنتخب وإظهاره فى شكل الرئيس السابق من قبل فلول النظام المتمترسة فى مفاصل مهمة من السلطة وبعض من والأهم هى محاولات بائسة لأن هناك فرقا بين رئيس اغتصب السلطة لعدة قرون ورئيس اختاره الشعب ليكمل أربع سنوات هى حقه الدستورى لم يمض منها إلا عدة أشهر.
وهدف هذه المحاولات إفشال الرئيس والاعتداء على هيبة مؤسسة الرئاسة الشرعية ثم الزحف إلى القصر لإسقاط الرئيس.
هناك أوهام تتلخص فى تسويق حقد متزايد على التيار الإسلامى وعلى رأسه الإخوان المسلمين ومحاولات شيطينته والتخويف والترهيب منم كمؤيدين للرئيس.
يقابلها محاولات التشكيك فى الوطنية للقوى المعارضة للرئيس ومعها دعوات للانقلاب العسكرى وجر الجيش إلى آتون السياسة مرة أخرى وأيضا دعوات لتدخل المؤسسات والقوى الدولية.
هناك أيضا محاولات لإدخال القضاء المصرى العظيم إلى آتون السياسة البغيضة ومن ثم فقدانه حياديته والتشكيك فى قدسية أحكامه وخلق جو من عدم الثقة والغضب بين الشعب والقضاء وهذا أمر خطير آخر، رأينا من إثارة ما حدث بالأمس القريب من اعتداء على هيبة المحكمة العليا.
كل تلك الأحداث وضعتنا كمصريين جميعا فى مأزق الانقسام والصراع والتصعيد والتهديد والوعيد والمبالغة والتطرف الفكرى والعنف اللفظى والمادى الذى تقوده نخب ثقافية وسياسية وإعلامية وللأسف قضائية ويساعد على الاشتعال فلول مندسة مستغلة للمشهد السياسى المعقد واختلاط الحابل بالنايل واختفى العقلاء من صدارة المشهد إلى خلفيته.
من على هذا المنبر الحر أحذر المصريين من الانزلاق إلى مشاهد ما قبل الثورة وأطالب العقلاء وما أكثرهم بالتدخل ووقف هذا الصراع السياسى المقيت ولو لحين فى هدنة تعطى للشعب الفرصة أن يقول كلمته الحرة وحسم الأمور المعقدة سياسيا عن طرق صناديق انتخاب حرة تحت إشراف القضاء وتحت حماية وزارة الداخلية والقوات المسلحة.
من على هذا المنبر أعتقد أن مصر فى حاجة إلى لحظة عبقرية ثالثة تخرجها من الوحل السياسى الذى انتجته المرحلة الانتقالية إلى مرحلة استقرار دستورى وتشريعى. وحمى الله مصر من الفتن كل الفتن ما ظهر منها وما بطن.
