الدستور هو الوثيقة التى تجمع بين أبناء الوطن الواحد، ويلتفون جميعا حولها وربما لا يتفقون على جميع موادها، لكنها الرابط بين الوطن والمواطن، وهى عنوان الهوية التى تحتضنه، وتنظم سائر حياته، وتحدد ما له من حقوق، وما عليه من واجبات، ولكن الدستور فى النهاية هو اجتهاد من عمل البشر، وكل أعمال البشر مردود عليها، فهى ليست قرآنا يتلى آناء الليل وأطراف النهار، ولا هى منزهة عن كل عيب ونقص أو خطأ أو نسيان، وحين يجتمع مجموعة من البشر بأفكار متفاوتة وأهواء مختلفة، حول مائدة واحدة، ليكتبوا جميعا دستور وطن يحكم أمة بقامة وقيمة مصر الحضارة، فلا بد أن يكون هناك تفاوت فى الرؤى والآراء ولا بد أن يأخذ النقاش حقه الواجب، والأهم أن يكون اختيار هذه المجموعة الوطنية منزها عن كل هوى، وعن كل انتماء حزبى، أو طائفى، حتى نؤسس لعوامل التوافق بدلا من أن نبنى عوامل الفرقة والاختلاف، كما يجب أن يوكل الأمر لأهله من أهل القانون وأساتذته، من شهد لهم المجتمع بأسره بالمصداقية والأمانة والبعد عن التحزب والتلون لتكون لهم الكلمة الأخيرة فى بناء هذا العمل الذى يحدد الطريق ويؤسس الخطى لأمة ناهضة.
هكذا كان يجب أن يكون الطريق، وهكذا كانت بداية الأخطاء حين تم تشكيل الجمعية التأسيسية للدستور بعد الطعن على الجمعية الأولى فى المحكمة الدستورية فكانت سقطة المجلس العسكرى الكبرى، بدعوى سرعة بناء لبنة أساسية فى المجتمع فتم إقرار تشكيل اللجنة على أساس المحاصصة، والنسبة والتناسب والمغالبة يإرضاء الأغلبية وإقصاء الكثير من أهل الرأى والخبرة لمجرد أن حزب الأغلبية لابد أن يحصل ومن يؤيده على نسبة لا تقل عن 50 % من أعضاء اللجنة التأسيسية، فما علاقة حزب الأغلبية وكفاءات أعضائه وخبراتهم الحياتية كى يكون وضع دستور مصر بأغلبيتهم حقا مكتسبا لهم دون غيرهم.
هكذا البدايات الخاطئة تصنع الأزمات كما أن تحديد وقت زمنى لدستور دائم لوطن هو أمر غريب، وكأنهم لابد أن يزرعوا ويحصدوا الدستور فى هذا التاريخ فماذا لو احتاج لتأن ودراسة ووقت أطول لصناعة دستور دائم، وسرنا خلال الفترة الانتقالية بدستور مؤقت نتوافق عليه، ولكن هكذا فعلوا حتى رأينا هذا المشهد المقيت يوم التصويت على مسودة الدستور، التى امتدت حتى صباح اليوم التالى ليتم تسليمه للرئاسة قبل الثانى من ديسمبر، هكذا دارت العجلة، ولما كانت الكتل التى تم تشكيل الجمعية التأسيسية منها غير متوافقة وغير متآلفة، وتم إقصاء فئات عديدة وقامات فكرية وقانونية غير متحزبة فى المجتمع المصرى كانت الجمعية ستشرف بتواجدها وتثرى العمل، وتحرص على الوطن لكنها الغلبة والعصبية وضعف المسئول عن الحكم فى هذه المرحلة الانتقالية فتراضوا على السكوت مؤقتا، والعمل معا وكل طرف يضمر للآخر ما لا يبنى وطنا، ولا يحرص عليه، ولا أعفى أحدا دون الآخر، فلا الأغلبية من أبناء التيار الإسلامى حرصت على الوحدة والاتفاق ولا جماعات التيار المدنى وضعت يدها فى يد الأغلبية ليخرجوا لنا بدستور متوافق عليه.
لقد قرأت مسودة الدستور كاملة، عدة مرات حتى لا أكون جاهلا بما فيها لأنها مقترح لدستور وطن بأسره ووجدتنى أقف طويلا أمام بعض المواد كالمادة 35 المتعلقة بالحريات، وفى الواقع على الأرض كل ما يحدث يخالف كل حرف فى المادة، ثم مرة أخرى تعاد المواد الخاصة بانتخابات مجلس الشعب كالمادة 231 لتكون الثلثين بالقائمة والثلث الباقى للمستقلين والأحزاب وهو نفس السبب الذى تم حل مجلس الشعب بسببه لمخالفته حقوق المستقلين، ومزاحمتهم فى النسبة المقررة لهم علما بأن نسبة المستقلين من جموع الشعب، أكثر من نسبة المنضمين لأحزاب وما كانت هذه المادة وإعادتها إلا لضمان عودة الأغلبية مرة أخرى، حرصا على المقاعد والمناصب والتشريع وهو أمر غريب عجيب مريب، يوضح السبب الرئيسى للحرب المعلنة مع القضاء والأقلية لضمان استمرار الأغلبية بكل الطرق وبدلا من أن كانت محل نزاع قضائى، أقر بطلانها تصبح الآن دستورا محصنا،
كما تم توريث مجلس النواب المنحل لمجلس الشورى المحصن خوفا من حله فى سابقة لم تحدث فى جميع دول العالم ليظل العناد هو سيد القرار دون النظر لمصلحة وطن عليا قياسا بالحرص على مصالح حزب وجماعة والمادة التى تم إقرار عدم دستوريتها الخاصة بقانون العزل أعيدت كما هى مرة أخرى فى المادة رقم 232 لنستمر فى قسمة الوطن وأبنائه بتوسيع الدائرة، وليس بحصرها على القيادات العليا للحزب البائد، ومن أفسدوا الحياة السياسية فيه بموجب أحكام قضائية والتعميم يضر لا يفيد والتخصيص يؤسس للحريات ويحفظها ولكن من يسمع ومن يجيب وقد سبق السيف العزل، وتم سلق المادة دون فهم لمصلحة وطن ودون تعلم من سنة نبى العفو والمرحمة، حتى يؤلف قلوب الأمة، وأخيرا المادة 234 التى حصنت دستوريا كل أعمال وقرارات الرئيس لأنها منزهه عن كل نقص وعيب، ولو قرأنا بتمعن مسودة الدستور حتى نكون منطقيين فى أحكامنا ولا نمشى مع الركب دون عقل أو بينة لوجدنا أن المواد التى أتت فيها تتراوح بين مواد عامة لا يختلف عليها بعد ديباجة عادية ومواد الباب الأول الدولة والمجتمع ثم الباب الثانى المتعلق بالحقوق والحريات وبه بعض المواد التى يختلف ويتفق عليها ثم الباب الثالث الخاص بالسلطات العامة وبه العديد من النقاط التى يدور حولها الكثير من علامات الاستفهام، خاصة بسلطات الرئيس وتعيينه للجهات الرقابية المختلفة فى الدولة التى جاءت فى الباب الرابع وجميعها تتكرس فى يد سلطة الرئيس المطلقة ثم الباب الأخير الخاص بالأحكام الختامية والانتقالية وهو الطامة الكبرى فبه كثير من المواد التى قيل إنها كلمات حق ولكن أريد بها ألف باطل فبها مواد أتت فقط لتكريس استمرار الأغلبية الحالية فى الحكم إلى أن يشاء الله.
وهكذا جاءت مواد الدستور المختلفة بين عامة مقبولة ومنطقية وربما رائعة أو عادية وغير مقبولة بالمرة وانتهازية دون وسطية، بين كل هذا هناك تجاهل للكثير من الأمور الهامة الحياتية، لم يتطرق لها مشروع الدستور نهائيا كالخاصة بالتعليم والبحث العلمى والحقوق الصحية والسياحة والاقتصاد والتنمية وحقوق المرأة والرياضة ودورها فى المجتمع وحقوق الشباب وهم وقود الثورة وأصحابها الحقيقيين.
الحقيقة الواضحة دون مواراة أن هناك ما لا يقل عن سبعين بالمائة من المواد عامة تم قبولها والتوافق حولها دون أى اعتراض قبل انسحاب التيار المدنى، وهناك عشرون بالمائة كان من الممكن بالهدوء وحسن النوايا أن يتوافق جميع أعضاء التأسيسية حولها، ولكن عشرة بالمائة من المواد لا يمكن قبولها سُخرت كاملة لصالح الأغلبية الحاكمة حاليا لإطلاق يدها فى السلطة التنفيذية والتشريعية وكافة مؤسسات الدولة وهذه المواد، تم إقرارها بعد انسحاب التيار المدنى وكان من الضرورى جدا تحصين الجمعية التأسيسية، حتى يتم إقرار هذه المواد بمنتهى العجلة والتسارع والعجيب هو الترويج لفكرة أن من يقف مع الدستور فهو يقف مع الشريعة والدين ومن يخالفه أو يعترض عليه أو حتى من يحاول أن يناقش هو خارج عن الملة والشرعية، ويجب الحجر عليه وهذا كفر بوار بالرأى والرأى الآخر وبحق الجميع فى القراءة والتبين قبل أن نتخذ قرارا يبنى وطنا للجميع حتى يكون حكمنا أمينا على مسودة الدستور التى تم الدعوة للاستفتاء عليها على عجل دون أن يأخذ الشعب حقه من التوعية والتعريف بما يستفتى عليه فانقسم الشعب لفرقاء مختلفين فيما بينهم، فهناك أبناء التيار الإسلامى من جماعة الإخوان والسلف يروجون جميعا أنه الدستور الأعظم والأتقى والأنقى فى تاريخ البشرية وكأنه قد أتانا من رب السماء، والعجب العجاب أنهم يؤيدون دون معرفة بالمنتج نفسه ودون قراءة ودون استيعاب وحينما أنزل الله كتابه الكريم على نبيه بدأه بكلمة هى ميثاق كل حكمة وعقل.. اقرأ، اقرأ أولا قبل أن تحكم اقرأ لتفهم اقرأ لتعى اقرأ لتعرف اقرأ لتتيقن ثم تكون عقيدة واضحة ثابتة كالجبال ولكن من يقرأ الآن ومن يدرس بل هو التأييد الأعمى والعصبية الجاهلية التى هدمها الدين وقض أركانها تعود إلينا فى زمن كنا أولى الناس فيه بالتوحد والاجتماع ، بل أكثر من هذا هناك تيار دينى آخر متشدد يرى أن مشروع الدستور قد فرط فى أمور كثيرة فى صلب العقيدة والدين، فريق آخر معارض على طول الخط يعارض دون أن يوضح يعارض حتى لا يلتقى ويعارض ليؤخر ويفسد أكثر من أن يصلح ويشارك ويبنى.
ثم أخيرا نظام حكم لم يعدل بين المؤيد والمعارض ولم يحاول أن يرأب الصدع بل مال لطرف دون الآخر وتجاهل عن عمد كل مخالف فى الرأى، يقول شيئا ويفعل عكسه تماما، على عجلة من أمره، لأن الوطن أصبح تحت رحمة المصالح ومن أين تؤكل الكتف ومن يسبق قبل الآخر ومن يكسب الجولة وبات التشكيك فى القضاء، وهيئاته شماعة كبرى لترويج الأفكار وتسويق المخططات وحصد النتائج وتأليب الناس، والحكمة الغائبة تقول ليس الحكيم من يعتقد بحسن ما يصنع حاليا استقواء بمن حوله وإرضاء لمؤيديه ولكن الحكيم من يستطيع أن يحتوى معارضيه أولا حرصا على وطن بأكمله، ومن العار أن نستعرض عضلاتنا لنظهر مدى قوتنا لنتنازع وطن فأى كرامة تلك حين ينتزع غيرك بعضا من هذا الوطن بدلا من أن نضع أيدينا معا لنجمع شتاته، بينما قسمة الشعب والوطن هى المحصلة الكبرى لكل هذا العبث فى غيبة من العقل والحكمة لجميع الأطراف وحرص كل طرف على الاعتداد برأيه وأخذ الوطن لآخر مدى من الشقاق والفرقة والنزاع حتى بتنا نستقوى على بعضنا البعض ونتفاخر بأعداد مؤيدينا، وقوة حشودنا، وكأن كل فريق لا يرى إلا نفسه، وتناسوا جميعا أننا أعضاء لجسد واحد قلبه وعقله لن يحتمل كل هذا الشقاق ولن نحصد جميعا إلا الندم فسبحان من له الدوام، الذى قال فى محكم آياته "وتلك الأيام نداولها بين الناس" ولن يستطيع فريق بمفرده أن يستولى على وطن وإن استطاع فلن يستمر مدى الحياة وفى النهاية سيعلم الذين ظلموا أى منقلب ينقلبون.
د. هانى أبو الفتوح يكتب: دستور الفتنة ما له وما عليه!
الأربعاء، 05 ديسمبر 2012 07:30 ص
الدستور
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
سامح لطف الله
عايزين رأيك في الدستور
عدد الردود 0
بواسطة:
Hany
دستور الفتنه
عدد الردود 0
بواسطة:
د حامد حسين
رائئئئئئئئئئئئئئئئئئئئئئئئئئئئئئئئئئئئئئئئئئئئئئئئئئئئئئئئئئئئئئئئئع
عدد الردود 0
بواسطة:
احمد سعد
كلمات من ذهب
عدد الردود 0
بواسطة:
نيفين
يا رب
عدد الردود 0
بواسطة:
نجيب
يا راجل حرام عليك
عدد الردود 0
بواسطة:
احبك ربى
انصحك بقرأه الدستور مره اخرى
عدد الردود 0
بواسطة:
د هاني أبوالفتوح ( كاتب المقال )
تحية للأحبة جميعا و رد على التعليقين رقم 6 , 7 عن المادة 35 والمادة 231 ومابهما من عوار
عدد الردود 0
بواسطة:
maz
أى كلام
عدد الردود 0
بواسطة:
محمود عبداللاه
منتهى التزييف للحقائق