أياما عصيبة ولحظات حرجة تعيشها مصر بلدنا خلال هذه الفترة المتوترة، والتى تشهد فيها لغطا سياسيا بسبب ولادة الدستور الجديد الذى تنتظره مصر جميعها على أحر من الجمر، حتى تتضح الرؤية كاملة وكى تتحدد شخصية مصر الجديدة بعد ثورة 25 يناير، هذه الثورة التى خرجت لتنادى بتحقيق العدالة الاجتماعية وتوفير رغيف الخبز والحرية، وكان على رأس هذه المطالب رحيل النظام القديم ومحاسبة من أجرموا وتسببوا فى إفساد الحياة العامة والسياسية، إلا أن حلم الملايين من الكادحين بتحقيق أهداف ثورة يناير بات من الصعب تحقيقه على أرض الواقع بسبب التناحر السياسى بين كافة أطياف القوى السياسية فى مصر بين مؤيد ومعارض لهذا الدستور الجديد الذى شكلته اللجنة التأسيسية، والتى انسحبت منها جميع القوى المدنية والكنيسة التى رفضت هى الأخرى الاستمرار فى هذه اللجنة التأسيسية معلقين على قرار انسحابهم أنه جاء بعد هيمنة التيار الإسلام السياسى منفردا بوجهة نظره على باقى الفصائل المشاركة فى صياغة الدستور، ومع هذا الانسحاب استكملت اللجنة التأسيسية عملها، حيث استعاضت عن هذا النقص بالاحتياطى حتى انتهت من صياغة الدستور، وتم رفعه إلى السيد رئيس الجمهورية الدكتور محمد مرسى يوم السبت الماضى، والذى دعى بدوره من خلال خطابه فى قاعة المؤتمرات للدعوة للإستفتاء على الدستور الجديد يوم 15 ديسمبر الجارى.
وتأتى هذه الدعوة بعد أن انتهت من صياغة الدستور اللجنة التأسيسية التى ترأسها المستشار حسام الغريانى، رئيس محكمة النقض ورئيس المجلس الأعلى للقضاء فى مصر، ولد الغريانى فى 25 أكتوبر 1941 الشرقية، وأتى الغريانى خلفا للمستشار سرى صيام، حيث كان يشغل نائب رئيس محكمة النقض سابقا، كما يعد من المفكرين فى تيار استقلال القضاء المصرى، كما عرف بموقفه الشهير عندما أصدر الحكم ببطلان الانتخابات فى دائرة الزيتون عام 2003م، وكان الفائز فيها زكريا عزمى، بالإضافة إلى أنه المقرر العام لأول مؤتمر للعدالة "القضاة" عقد فى عام 1986 وفى عام 1990 كان له دوره فى وضع مشروع قانون السلطة القضائية، كما أنه أول من نظم وقفة احتجاجية للقضاة عام 2005م و2006م بعد إحالة زميليه المستشارين هشام البسطويسى ومحمود مكى إلى الصلاحية بعد اعتراضهما على تزوير الانتخابات.
هذا المشهد تكرر عدة مرات فى تاريخ مصر الحديث "اليوم السابع" عقد هذه المقارنة بين من شاركوا فى صياغة دساتير مصر، بدأ من دستور 1882 فى عهد الخديوى توفيق والذى صدر من سراى الإسماعيلية فى 7 فبراير سنة 1882، الموافق 18 ربيع الأول سنة 1299 هـ، حيث كان الهدف من هذا الدستور هو أن يحل محل دستور سنة 1879، ويعد هذا الدستور حلقة فى تاريخ القانون الدستورى فى مصر، كما يعتبر قاعدة أساس قوية فى مراحل وضع الدساتير فى مصر، فهذا الدستور كان بمثابة شرارة البدء بشكل متواضع تماما فى ممارسة الحياة الديمقراطية السليمة، ومع أن هذا الدستور جاء فى ظل الولاية العثمانية على مصر والتى مثلتها الأسرة الحاكمة فى ذلك الوقت، إلا أن "الخديوى توفيق" سعى من خلاله للتخلص من التبعية للدولة العثمانية، والانفراد بحكم مصر، وجعل الحكم فيه قائما على عدة أسس، أهمها كان رقابة "مجلس النواب" لعمل الحكومة الذى يمثله "مجلس النظار أو الوزراء"، مما جعله أقرب إلى نموذج دستورى لدولة قانونية ولكن بشكل بسيط ، حيث إنه لم يرقَ إلى الشكل المأمول لبناء دولة القانون والمؤسسات.
كما تميز هذا الدستور بفصله بين مهمة الرقابة الإدارية وبين مهمة التشريع، وجعل الحكومة متمثلة فى مجلس النظّار وتحميلها مسئولية العمل الحكومى والخدمى فى المجتمع، بالإضافة إلى إعطاء مجلس النواب الحق فى مساءلة وكذلك محاكمة مجلس النظّار الذى هو ممثل للأمة المصرية، وكانت من أهم الدللات الواضحة لهذا الدستور صدوره فى ظل عراك وجدل سياسى بالتزامن مع الاحتلال الإنجليزى على مصر، واشتعال الثورة العرابية ضد الخديوى سعيد، وكان من ضمن النتائج الإيجابية لهذا الدستور هو إيجاد مجلس للنواب وتوضيح العلاقة بينه وبين الحكومة الممثلة فى "مجلس النظّار"، وتم العمل به حتى ألغاه الاحتلال الربريطانى.
بينما جاء دستور 1923 عقب صدور تصريح 28 فبراير 1922 الذى اعترف بمصر دولة مستقلة ذات سيادة فى ظل الاحتلال البريطانى، كما جاء ليحل محل القانون النظامى رقم 29 لسنة 1913، والذى وضعته اللجنة التى سميت وقتها بلجنة الثلاثين والتى شكلها عدلى يكن وتكونت من ثلاثين عضوا، حيث ضمت هذه الجنة ممثلين عن جميع الأطياف فى مصر من أحزاب سياسية وكذلك شخصيات شعبية وقادة الحركة الوطنية، وكان على رأس هذه اللجنة عبد الخالق ثروت باشا رئيس وزراء مصر فى عهد الملك فؤاد الأول، والذى تولى رئاسة الوزراء لفترتين من 1 مارس 1922 إلى 30 نوفمبر 1922، ومن 26 أبريل 1927 إلى 16 مارس 1928.
ولد "عبد الخالق ثروت" فى درب الجماميز عام 1873م والده "إسماعيل عبد الخالق" من كبار المسئولين عن الشئون المالية فى عهد الملك فؤاد الأول، والتحق بالمدرسة التوفيقية وتخرج فيها سنة 1886، ثم التحق بكلية الحقوق، وتخرج فيها عام ١٨٨٩، وكان واحدًا من مؤسسى أول مجلة مصرية للقانون، كما تقلد العديد من المناصب كان من أبرزها توليه قلم قضايا الدائرة السنية، ثم انتقل إلى نظارة الحقانية حتى أصبح مستشارا بمحكمة الاستئناف الأهلية، كما اختير وزيرا للحقانية فى وزارات حسين رشدى باشا الأولى والثانية والثالثة والرابعة، بالإضافة إلى توليه وزارة الداخلية فى حكومة عدلى يكن باشا الأولى فى ١٦ مارس عام ١٩٢١، كما كلفه الملك بتشكيل وزارته الأولى فى الأول من مارس عام ١٩٢٢ وحتى٢٩ نوفمبر من نفس العام، حيث احتفظ فيها بوزارتى الداخلية والخارجية.
من أبرز أعماله السياسية فى وزارته الثانية انتزاعه ما عرف بتصريح ٢٨ فبراير ١٩٢٢ من إنجلترا، وبموجبه تم الاعتراف بمصر كدولة مستقلة ذات سيادة مع تحفظات أربعة "إعلان ١٥ مارس ١٩٢٢"، بالإضافة إلى تغير لقب السلطان فؤاد من إلى الملك فؤاد، وضمت اللجنة من بين أعضائها 6 مسيحيين ويهودى وطفلا يمثل طلاب المدارس العليا وضمت أيضا ممثلين عن البدو وممثلين عن التجار ورجال المال واستطاعت هذه اللجنة أن تنتهى فى 6 أشهر فى إعداد الدستور الذى صدر عام 1923 بمرسوم ملكى.
وضمت اللجنة فى عضويتها كل من يوسف سابا باشا وأحمد طلعت باشا ومحمد توفيق باشا وعبد الفتاح يحيى باشا والسيد عبد الحميد البكرى والشيخ محمد نجيب والأنبا يؤانس وقلينى فهمى باشا وإسماعيل أباظة باشا ومنصور يوسف باشا ويوسف أصلان قطاوى وإبراهيم أبو رحاب باشا وعلى المنزلاوى بك وعبد اللطيف المكباتى بك ومحمد على علوبة بك وزكريا نامق بك وإبراهيم الهلباوى بك وعبد العزيز فهمى بك ومحمود أبو النصر بك والشيخ محمد خيرت راضى بك وحسن عبد الرازق باشا وعبد القادر الجمال باشا وصالح لملوم باشا وإلياس عوض وعلى ماهر بك وتوفيق دوس بك وعبد الحميد مصطفى بك وحافظ حسن باشا وعبد الحميد بدوى بك، حيث تم إلغاء هذا الدستور وإصدار دستور جديد للبلاد فى عام1930 الذى ظل العمل به حتى دسمبر 1935 وإعادة العمل بدستور 23 مره أخرى.
قسوة بالغة وتجاهل متعمد تم التعامل به مع نتائج النخبة التى شكلت دستور 1954 والتى كان على رأسها العلامة القانونى الدكتور عبد الرزاق السنهورى رئيس مجلس الدولة وأحد أعلام الفقه والقانون فى الوطن العربى ولد فى 11 أغسطس 1895 بالإسكندرية وحصل على الشهادة الثانوية عام 1913 ثم التحق بمدرسة الحقوق بالقاهرة، حيث حصل على الليسانس عام 1917م وتأثر بفكر ثورة 1919م وكان وكيلاً للنائب العام عام 1920 ثم سافر فرنسا للحصول على الدكتوراه والعودة سنة 1926م ليعمل مدرساً للقانون المدنى بالكلية ثم انتخب عميداً لها عام 1936م.
نادى بوضع قانون مدنى جديد واستجابت له الحكومة وشغل منصب وزير المعارف 4 مرات وعين رئيساً لمجلس الدولة من عام 1949م حتى 1954م عرف عنه تأييده لثورة يوليو وشارك فى مشاورات خلع الملك فاروق مع محمد نجيب وجمال سالم وأنور السادات، بذل جهودا كبيرة فى مشروع الإصلاح الزراعى وطلب إرساء الديمقراطية وحل مجلس قيادة الثورة وعودة الجيش إلى الثكنات إلا أن المظاهرات العمالية هدمت أفكاره.
يعتبر السنهورى باشا ومؤلفاته ثروة للمكتبة القانونية إذ كان عضواً فى مجمع اللغة العربية منذ 1946م وأسهم فى وضع كثير من المصطلحات القانونية إلى أن توفى فى 21 يوليو 1971م.، كما ضمت اللجنة أيضا كوكبة من النخبة فى ذلك الوقت مثل "أحمد محمد حسن، رئيس محكمة النقض، والشيخ حسن مأمون، رئيس المحكمة العليا الشرعية، والدكتور طه حسين وأحمد لطفى السيد وأستاذ القانون الدستورى الدكتور السيد صبرى والدكتور عبد الرحمن بدوى ومصطفى مرعى وفكرى أباظة ومكرم عبيد وإبراهيم شكرى.
مميزات هذا الدستور تمثلت فى الباب الثانى عن «الحقوق والواجبات العامة» النظر، بنصوصه التحررية التى تكفل للمصريين قدرا واسعا من الحقوق، تجمع بين الحقوق السياسية والحقوق الاجتماعية، وبين الديمقراطية والعدل الاجتماعى، فالنص الخاص بالمساواة بين المصريين فى الحقوق والواجبات العامة، لا يحظر فقط التمييز بينهم بسبب الأصل أو اللغة أو العقيدة، بل ويضيف إليها- كذلك- عدم التمييز بينهم بسبب الآراء السياسية والاجتماعية".
وكان الخلاف الذى وقع بين السنهورى وبين عبد الناصر هو السبب فى حل مجلس الدولة وعمل تصفية من جانب السلطة (وهى الثورة آنذاك) لرجال القضاء العاملين بمحراب مجلس الدولة ثم إصدار عبد الناصر قانون جديد ينظمه، ويذهب البعض إلى أن الخلاف يكمن فى رغبة السنهورى فى تحقيق الثورة لمبادئها وتمثيل ذلك فى جعل سلطة قضائية تكون هى الحكم بين الدولة الجديدة وبين الجماهير.
بعد وفاة الرئيس جمال عبد الناصر فى 28 سبتمبر 1970، تولى السلطة مؤقتاً نائبه محمد أنور السادات إلى أن تم ترشيحه بواسطة مجلس الأمة لرئاسة الجمهورية، وقد تمت الموافقة على رئاسته للجمهورية فى الاستفتاء الشعبى الذى أجرى فى منتصف أكتوبر 1970.
وفى 20 مايو 1971 طلب الرئيس السادات من مجلس الشعب وضع مشروع دستور جديد فقرر المجلس بجلسته المنعقدة فى نفس اليوم تشكيل لجنة تحضيرية من خمسين عضوا من أعضائه ومن أهل الرأى والخبرة ورجال الدين.
وفى جلسته المنعقدة فى 25 مايو 1971، تقدم لعضوية اللجنة التحضيرية ثمانون من أعضاء المجلس، فقرر المجلس أن يرفع عدد الاعضاء من 50 إلى 80 عضوا واعتبر جميع المتقدمين أعضاء فى اللجنة.
وقسمت اللجنة التحضرية إلى لجان أربع وهى اللجنة الأولى التى اختصت بدراسة المقومات الأساسية للمجتمع والحريات والأخلاق، أما اللجنة الثانية واختصت بدراسة نظام الإدارة الحكم، بينما كانت اللجنة الثالثة قد اختصت بدراسة نظام الإدارة المحلية والقوانين الأساسية، بينما أتت اللجنة الرابعة واختصت بتلقى مقترحات الجماهير وتلخيصها وتوزيعها فى اللجان السابقة تبعا لاختصاصها.
كما باشرت هذه اللجان عملها، حتى انتهت اللجنة التحضيرية إلى تقديم تقريرها عن المبادئ الأساسية لمشروع الدستور إلى مجلس الشعب، ووافق المجلس على المشروع، والذى عرض مع وثيقة إعلانه على الشعب للاستفتاء عليه فى 11 سبتمبر 1971، عملا بأحكام المادة 193 من الدستور.
وفى سنة 2005 تم تعديل الدستور مرة أخرى لينظم اختيار رئيس الجمهورية بانتخابات مباشرة، فيما عرف بتعديل المادة 76، والتى جرت على إثرها أول انتخابات رئاسية فى مصر.
وفى 26 مارس 2007 جرى استفتاء بموجبه عُدِّل الدستور مرة أخرى، وشملت التعديلات حذف الإشارات إلى النظام الاشتراكى للدولة، ووضع الأساس الدستورى لقانون الإرهاب (المادة 179).
وبعد قيام ثورة 25 يناير وتنحى الرئيس السابق محمد حسنى مبارك، كلف المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذى تولى إدارة شئون مصر، لجنة للقيام ببعض التعديلات الدستورية، وتم عرضها للاستفتاء على الشعب فى 19 مارس 2011. وبعد موافقة الشعب المصرى فى الاستفتاء، أصدر المجلس الأعلى للقوات المسلحة فى يوم 30 مارس 2011 إعلاناً دستوريا من 63 مادة مشتملاً على أغلب التعديلات التى تم إقرارها فى الاستفتاء بالإضافة إلى بعض المواد الأخرى.
وبعد هذا جاءت الجمعية التأسيسية للدستور التى واجهت صعوبات بالغة وتعثرت كثيرا حتى تمخضت عن مائة عضو معظمهم الإضافة إلى استبعاد اللجنة الجديدة عشرات الشخصيات من أبرز وألمع العقول المصرية فى الفكر القانونى والسياسى وفى الثقافة والآداب والعلوم.
أهم ما تميزت به لجان وضع الدستور فى تاريخ مصر.. لجنة دستور 23 ضمت 6 مسيحيين وطفل ويهودى وانتهت من كتابة الدستور فى 6 أشهر.. مجلس قيادة الثورة رفض دستور 54 واعتبر أنه يسحب السلطة من تحت قدمه
الأربعاء، 05 ديسمبر 2012 09:56 ص
حسام الغريانى
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة