أصدر مشروع "كلمة" للترجمة فى هيئة أبوظبى للسياحة والثقافة كتاباً جديداً بعنوان: "الذاكرة، أسرارها وآلياتها" لمؤلفه لوران بوتى، ونقله إلى العربية الدكتور عزالدين الخطابى.
تضمنت محاور الكتاب مجموعة من القضايا، استهلها المؤلف بعرض تاريخى لمفهوم الذاكرة، وتطور دلالته من العصور القديمة إلى البدايات الأولى لظهور السيكولوجيا العصبية التى ستساهم أعمال المشتغلين فى إطارها، فى وصف المناطق الدماغية المعنية بمختلف أنظمة الذاكرة. وستتعزز هذه الأعمال كما ستكتسب دقة أفضل، بفعل نتائج الأبحاث فى مجال العلوم العصبية وتقنيات التصوير العصبى الوظيفى للدماغ وتحديداً تقنيات التصوير بالرنين المغناطيسى. فقد ساعدت هذه التقنيات على تصنيف أشكال الذاكرة، وعلى التمييز بين ذاكرة ذات مدى قصير وأخرى ذات مدى طويل وبين ذاكرة مرحلية وأخرى دلالية وبين ذاكرة الاشتغال والذاكرة الإجرائية إلخ.
وأثبتت هذه الأبحاث أنه لا توجد داخل دماغنا منطقة واحدة ووحيدة للذاكرة، لأنه ليس هناك صنف واحد لها ولأن الأصناف المتعددة المذكورة، تنبثق من عمل شبكات موجودة بجهازنا العصبى، موزعة على مجموع المناطق الدماغية.
لذلك فإن الوصف التشريحى والوظيفى للبنيات الدماغية المرتبطة بمختلف أنظمة التذكر، يستدعى استعمال قاموس التشريح الوصفى للدماغ الإنسانى المتضمن لعدة فصوص (صدغية وجبهية وجدارية ومحيطية وخلفية). وعلى سبيل المثال، فإن الذاكرة المرحلية تتوقف على الفص الصدغى الأوسط وعلى المناطق الجبهية، كما أن الذاكرة الدلالية تتوقف على القشرة الدماغية برمتها، وهو ما يسمح بضبط المعلومات التى تم تخزينها والاحتفاظ بها وتنشيطها أو تشغيلها.
وقد ساهم توسيع حقول الأبحاث فى العلوم العصبية التجريبية وفى السيكولوجيا المعرفية عموماً واستثمار تقنيات التصوير العصبى الحديثة، فى تقديم معطيات متكاملة ودقيقة بخصوص طبيعة ووظيفة مختلف مكونات أنظمة الذاكرة. ما جعل الاهتمام بهذه العملية، موضوعاً علمياً بامتياز ستكرس له المؤسسات والمختبرات العلمية جهداً كبيراً واستثماراً مالياً هائلاً، من أجل الكشف عن الأنشطة المعقدة لدماغنا، بخصوص تذكر المعلومة واسترجاعها و إخضاعها للترميز.
وبهذا الصدد، أشار المؤلف بأن المعطيات العلمية المتراكمة خلال العقود الأخيرة، وتحديداً المعطيات المتوافرة عن طريق التصوير بالرنين المغناطيسى الوظيفى، سمحت بتصنيف مهام ذاكرة الاشتغال لدينا إلى فئتين: فهناك المهام التى تستدعى تخزين وترسيخ التمثلات وهناك المهام التى تستدعى تشغيل وإبراز المضامين، وهى بمثابة عمليات تنفيذية.
ويستفاد من ذلك، أن المهام المختلفة تتمركز داخل مناطق عديدة من الدماغ، استطاع الباحثون فى مجال العلوم العصبية والتصوير العصبى، تحديد مواقعها بدقة أكبر، مما ساهم فى إغناء معطيات السيكولوجيا المعرفية التى كانت هى المادة المرجعية الوحيدة من قبل، بالنسبة لدراسة الذاكرة الإنسانية.
لهذا، أعلن المؤلف منذ البداية بأن هناك عدة صيغ للحديث عن الذاكرة، وبأن عمله يهدف بالأساس إلى عرض كيفية اشتغالها داخل الدماغ الإنسانى، من منظور العلوم العصبية والسيكولوجية. لذلك فإن رهانه تمثل فى تحديد الأسس العصبية للذاكرة من أجل السماح للقارئ غير المتخصص بالإحاطة بالأوجه المتعددة لها كما عالجها المختصون فى مجال الدماغ البشرى. وقد ساهم اعتماده على أبرز الدراسات التى أنجزها المهتمون بالموضوع وتبسيط مضامينها، فى تقريب هذا العمل من المتلقى وإكسابه طابعا تشويقيا، باعتباره مغامرة داخل الجهاز العصبى للإنسان وتتبعا لوظائفه وعملياته المتعلقة بتخزين المعلومات وتذكرها.
المؤلف لورون بوتى باحث فرنسى بالمركز الوطنى للبحث العلمى وهو يعمل منذ سنة 1996 ضمن مجموعة البحث حول التصوير العصبى الوظيفى، مكنته إحاطته العميقة بالأبحاث الجارية فى الولايات المتحدة الأمريكية خصوصاً، من الإلمام بأهم القضايا المتعلقة بالذاكرة الإنسانية فى ارتباطها بأنشطة المناطق الدماغية، وهو ما يفسر اهتمامه بتقنيات التصوير بالرنين المغناطيسى التى شكلت قنطرة عبور إلى حقول معرفية أخرى اهتمت بدراسة الذاكرة، مثل البيولجيا العصبية والسيكولوجيا المعرفية والأنثربولوجيا.
نقل الكتاب إلى العربية الدكتور عز الدين الخطابى من مواليد 1952 بمدينة فاس بالمملكة المغربية، حاصل على الدكتوراه فى الإثنولوجيا من جامعة نيس بفرنسا، سنة 1990. يعمل أستاذاً باحثاً بالمدرسة العليا للأساتذة بمكناس (شعبة الفلسفة)، وهو عضو بالعديد من الجمعيات الوطنية، وينشر بالعديد من المجلات المغربية والعربية.
من مؤلفاته: سوسيولوجيا التقليد والحداثة بالمجتمع المغربي(2001)؛ مسارات الدرس الفلسفى بالمغرب (2002)؛ أسئلة الحداثة ورهاناتها (2009). ومن ترجماته: فى الترجمة والفلسفة السياسية والأخلاقية (2004)؛ هايدجر والنازية (2005)؛ هايدجر، دولوز وآخرون، فى الفلسفة والفن والأدب (2009).