انقطعت الكهرباء فجأة بينما كان الليل قد سرى وراحت القرية كلها فى سبات عميق. اثنان فقط بقيا ساهرين ملفوفين فى ظلام دامس بعد أن ماتت المصابيح الرخيصة المعلقة فى أعمدة مرشوقة فى الشوارع تحاول أن تطاول النخل الذى يتشامخ فى كل البيوت منذ سنين.
كانا فى إجازة نصف العام الدراسى ينتظران نتيجة النصف الأول من السنة الجامعية الثالثة على أحر من الجمر.
لم يدفعهما الصقيع إلى مخدعيهما كما ساق غيرهما منذ أول الليل. كانوا مجموعة صاخبة من شباب مفعم بالحيوية، لكن الصحاب راحوا يتساقطون تباعا، وينصرفون وهم يتثاءبون فى صمت. لم يبق سواهما يتهامسان فى العتمة القاحلة، ويرمقان النجوم التى ازدهت ودنت حتى شعر كل منهما أن بوسعه أن يمد يده ويقطف منها ما يشاء.
فى الحقيقة كان أحدهما هو المتشبث بالسهر، يريد أن ينفرد بصديقه الذى لم يره منذ شهور، ليبث إليه سره الدفين الذى لا يحكى عنه إلا له. إنه سر البنت التى يعشقها ويراها أجمل من فى الكون، مع أن صاحبه لا يرى ذلك أبدا. انتظر حتى انصرف الجميع وراح يشكو تباريح الهوى. لم يكن لديه شىء جديد عما ذكره من قبل. المشاهد القليلة المتناثرة التى يلضمها فى دأب وإصرار ليصنع منها دليلا على أن البنت تحبه. وصاحبه لا يقره على ذلك.
طالما حاول أن يصرفه عن منبع هذا الألم الذى يأكل روحه، فالبنت كانت مشغولة بقريب لها من قرية مجاورة، أبوه صاحب أطيان، والولد لا يعيبه شىء إلا تلك العيوب التى يعددها العاشق ويثبت بها لنفسه أن غريمه ليس بوسعه أن ينافسه.
شعر العاشق أنه أثقل على صاحبه ولم يأت بجديد حدث له طيلة الشهور الأربعة التى افترقا فيها، فابتسم وقال له:
ـ صدعتك بحكايتى، لكن ما بيدى حيلة، النوم لا يريد أن يأتى، ولا أحد غيرك لأحكى له.
فربت صاحبه على كتفه وقال:
ـ لا عليك سنسهر حتى الصباح.
فزفر وقال:
ـ الناس فى هذه البلدة ينامون مبكرا كالفراخ. كدح النهار يهد أبدانهم والنوم سلطان.
ـ بعضهم يكفى عشاءه نوما. ربما لم ينصتوا إلى الست أم كلثوم وهى تشدو: ما أطال النوم عمرا/ وما قَصَّر فى الأعمار طول السهر.
ـ السهر راح مع عمر الخيام.
ـ طبعا لو كان أيا منهم يعشق مثلى حنان بنت مسعود لأطارت النوم من عينيه.
تاه برهه ثم قال لصاحبه:
ـ لدى فكرة ستوقظ النيام وتطلق السهر فى عيونهم حتى الصباح.
ـ أى فكرة يا شرير؟
ـ سأصعد إلى هذا الجدار، وأصرخ بأعلى صوتى: حرامى .. حرامى. ثم أولول كالنساء. دقائق وستمتلئ الشوارع كالعادة لنجدة المستغيث. وحينها سيبقون ساهرين معنا حتى انبلاج النور، وسنسمع قصصا مسلية عن مطاردة الحرامية.
وما إن قطع خطوتين نحو الجدار حتى فرقع رصاص فى الهواء، زعق من أسلحة مختلفة. صوت بندقية آلية. صوت مسدس. صوت رشاش. تحالفت الأصوات الصاخبة فصنعت ضجيجا مخيفا. وظهر هناك فى أول الشارع نور كاشف، وبانت سيارة تمرق. ثوان وتجاوزتهما وهما واقفان والحيرة تنهش رأسيهما، ثم مضت بسرعة خارجة من القرية.
وجاء الناس من كل الأزقة والشوارع يحملون الشوم والفؤوس والبلط. بعضهم كان يحمل فرد خرطوش. وراحوا يجرون يمينا ويسارا، وعلى ألسنتهم تجرى أسئلة من المكان الذى هرب من اللصوص.
وتاه الناس فى تفسير ما جرى، وخمن بعضهم أن يكون الرجل الغريب الذى يشارك أحد أثرياء القرية قد قتله وهرب. وتطوع بعضهم للحديث عن أسباب الخلاف الذى دب بينهما فى الأيام الأخيرة.
وقال أحد الخفراء وهو يعدل وضع بندقيته على كتفه:
ـ رأيى أن ثلاثة رجال أطلقوا الرصاص فى وقت واحد من أسلحة مختلفة.
عادت الكهرباء فجأة فراحوا يزحفون نحو بيت الرجل الثرى ليقفوا على الحقيقة. أما هو وصاحبه فلم يتركا مكانهما. كانا سعيدين بعودة الناس إلى السهر. أخذ العاشق يجلجل بقهقات لم يضحكها من قبل. بدا مسرورا أكثر من أى لحظة أخرى فى حياته. وتحير صاحبه منه، ولم يجد تفسيرا لزوال الكآبة عنه فجأة.
وعاد من ذهبوا إلى بيت الثرى يتوسطهم شيخ الجامع، الذى قال للناس والفرحة تكسو وجهه:
ـ مبروك لكم جميعا، حضرنا خطبة بنت الحاج مسعود الصغيرة الست حنان.
وما إن أنهى كلامه حتى سمع الناس صوت ارتطام مكتوم. نظروا إلى جانبهم فوجدوا العاشق قد سقط مغشيا عليه.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة