أحمد إبراهيم الشريف يكتب: يوسف نبيل ينقب عن "مياه الروح"

الجمعة، 28 ديسمبر 2012 01:50 م
أحمد إبراهيم الشريف يكتب: يوسف نبيل ينقب عن "مياه الروح" غلاف رواية "مياه الروح"

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء



يوسف نبيل روائى شاب من مواليد 1987، له روايات هى "كسر الإيقاع".. "موسم الذوبان".. وصدر له مؤخرا رواية "مياه الروح" عن دار التجليات 2012، وتمثل كتابة يوسف فى مجملها حالة يمكن من خلالها رصد التجربة القصيرة له، حيث اعتمد فى كتابتها الخط النفسى، والذى أثبت من خلاله قدرته على الخوض فى العلاقات الشائكة للشخصية الحياتية، وبالتالى الشخصية الروائية.

ويبدأ يوسف نبيل فى كتابته من حيث تنتهى الأشياء، ومع ذلك لا يكتب أبدا على كتابة سابقة، وليست له نماذج يقلدها أو يعيد كتابتها، لا من حيث موضوع كتابته ولا من حيث طرائقها الفنية، له عالمه الخاص وله أسلوبه الذى يتشكل مع الوقت، فهو من حيث الموضوع يقف متربصا بلحظات الميلاد الحقيقية للشخصيات وللأشياء، ومن حيث اللغة يغازل الكتابات الصوفية وإن كان حتى هذه اللحظة على استحياء، لكنه سيصل إلى ما يريد.

شخصيات يوسف نبيل تشبه شخصيات مرت بك فى حياتك رأيتها فى المترو أو أبصرتها تسير فى الشارع لا تلتفت هى إليك.. أو تجلس فى مقهى غير منتبهة لما حولها.. تائهة نوعا ما.. هذا ما يبدو لك.. لكنها فى حقيقتها تعيد كتابة نفسها.. وتحدد موقفها من أشياء كثيرة.. من قيم كانت تظنها ثابتة ومن إنسانية اعتقدت أنها راسخة.. وأنت كقارئ – فجأة - تجد أن هذه الشخصية التى مرت أمامك أو رأيتها فى مكان ما ولم تلتفت إليها هى شخصك أنت منعكسا على مرآة لم تنتبه إليها.. فيوسف نبيل من خلال شخصياته فى (ثلاثية الغربة الداخلية) التى كتبها يكشف جسدنا المهترئ الذى نخبئه تحت أسمال تبدو براقة للناظرين.

الحدث فى روايات يوسف يعرف أن دوره ثانوى، ويعرف أيضا أن يوسف لا يقصده إلا بقدر ما يوضح الأزمة العامة والغربة والتيه التى يعيش فيها الإنسان.

أما الزمن لديه فهو ثقيل مشبع بتفاصيل تكفى ليكون زمنا ينزف وجعا.. وعادة ما يتحرك يوسف فى زمنين، الأول خارجى نعرفه ونتعاطاه بشىء من الاختلاف نستطيع أن نقول عليه "زمنا عاما" يحكمه اليوم والساعة، ربما يوجد فى شكل يوميات أو فى حدث كبير واضح كالثورة مثلا، والآخر (زمن خاص) يخص الرواية يتسم بكونه زمنا متوترا يبدأ من كارثة أو ينتهى إليها.. هذا الزمن تحكمه دقات قلوب الشخصيات والقراء.

وفى روايته الأخيرة "مياه الروح" يخوض يوسف نبيل فى موضوع شائك، ربما لأن أعداءه هذه المرة واضحون وليسوا مختبئين، إنها الأفكار المستقرة، والنفس الخادعة والشكليات الغالبة والمادة المفرطة.. كل ذلك يحاول يوسف نبيل أن يكشف مساوءه.. لكنه يحتاط لنفسه بالاعتماد على الأصول، حيث افتتح روايته بنص من "إنجيل يوحنا" ثم أعاد توزيعه على أجزاء الرواية التى قسمها ستة أقسام، واحتوت فى داخلها على مفاتيحها التى هى أسماء أبطالها.. حيث جاء النص الإنجيلى "كان إنسان من الفريسيين اسمه نيقوديموس، رئيس اليهود. هذا جاء إلى يسوع ليلا وقال له: يا معلم، نعلم أنك قد أتيت من الله معلما، لأن ليس أحد يقدر أن يعمل هذه الآيات التى أنت تعمل إن لم يكن الله معه.
أجاب يسوع وقال له: الحق الحق أقول لك: إن كان أحد لا يولد من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت الله.
قال له نيقوديموس: كيف يمكن الإنسان أن يولد وهو شيخ؟! ألعله يقدر أن يدخل بطن أمه ثانية ويولد!
أجاب يسوع: الحق الحق أقول لك: إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله. المولود من الجسد جسد هو، والمولود من الروح هو روح. لا تتعجب إنى قلت لك: ينبغى أن تلدوا من فوق. الريح تهب حيث تشاء، وتسمع صوتها، لكنك لا تعلم من أين تأتى ولا إلى أين تذهب. هكذا كل من ولد من الروح".

فى هذا النص الإنجيلى/الشارة التى وضعها يوسف فى أول الرواية، تكمن مفاتيح الكتابة وتكمن أيضا مفاتيح القراءة.. بداية العنوان "مياه الروح" التى تمثل الحياة الحقيقية وقد تمثل الموت الحقيقى أيضا.. لأن المياه ثنائية الدلالة.. نعم أشار السيد المسيح فى نصه للجانب الإيجابى منه، لكن يوسف نبيل أشار فى الرواية أيضا إلى الجانب الآخر الموت/ العنف، الذى ربما يوجد كى يهب الحياة (موت الثوار فى ماسبيرو وشارع محمد محمود وموت حامد منير).. كما أن كل الشخصيات الرئيسية (بولس رياض، سمير عبد النور، أحمد شاهين، حامد منير) والشخصيات الثانوية الجميع تحركوا بين المعرفة والجهل بهذا النص المفتاحى.

فى "مياه الروح" ينقلك يوسف نبيل إلى قلب البحث عن الحقيقة من خلال التفاصيل التى يمثلها الحدث، ويضعك الحدث فى مواجهة الشخصيات، ويضع الشخصيات فى مواجهة أنفسها، فـ"بولس رياض" يمارس اعترافه تحت التخدير فى غرفة العمليات (لحظة ضعف) والتى سرعان ما تتحول إلى (لحظة قوة) يستغلها بولس كى يقف من نفسه ومن المجتمع موقفا مختلفا.. فيبدأ عملية تطهيرية برفض هذا الخداع الذى كان يمارسه.. ولم يقل لنا يوسف نبيل ما الاعترافات التى قالها بولس رياض، لأن التفاصيل لا تهمنا.. أو ربما لأنها تشبه اعترافاتنا نحن لأنفسنا تلك الاعترافات التى نخبئها فى داخلنا.. كما أن ذلك يجعلنا نشارك فى كتابة الشخصية من خلال وضع النص الناقص/ الاعترافات.. فكل قارئ يكتبها حسب الذى بداخله.. أما "أحمد شاهين" فقد كان لظهور بولس رياض فى حياته فعل السحر.. فقد دفعه ذلك بشدة كي يبحث عن نفسه الحقيقية الحالمة الغاضبة التائهة.. و"سمير عبد النور" وحده يحاول استيعاب كل هذه الأشياء الكارثية التى أحاطت به.. كما أنه هو الذى بدأ الرواية وهو الذى أنهاها.

"مياه الروح" رواية لا ينقصها الألم، والذى يعنى أن موقف الثورة مازال شائكا، فالحالة النفسية والوطن الحزين والتمزق الواضح والشهداء الذين يكتبون بدمائهم كل صباح سطورا جديدة من تاريخ الحزن اليومى.. كل ذلك يقدم قراءة لثورة محبطة.. لذا كان اللجوء إلى النفس وإلى الحلول الروحية - بما يعنى الخلاص - حلا بديلا.. ربما ننفذ من خلاله إلى استقرار ما.

وتجدر الإشارة إلى أن يوسف فى "مياه الروح" طور مفهوم الرواية لديه، والذى أصبح يعنى كتابة التفاصيل وعدم استعجال الحدث.. كما أن اللغة لديه أصبحت أكثر عمقا.. وتخلص من الجمل الشارحة والتوضيحية.. بما أدخله فى اللغة المركزة الكاشفة.

وأخيرا.. الكتابة عند يوسف نبيل ليست صدفة.. فهو يعرف الطريق الذى يريده.. ويقصد من كتابته أن تكون جسرا بين اللغة والنفس.






مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة