يخرج الإنسان من رحم أمه إلى الدنيا فيأخذ طريقه فى التدرج والنمو والكبر إلى أن يصير مُكلفاً فيفعل ويحلم ويطمح ويتمنى ويصنع ويُفكر إلى أن تمر به الأيام وينتهى أجله، فيصير ذكرى وهذا هو الذى أشار إليه القرآن الكريم فى سورة المؤمنون: (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة فى قرار مكين* ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين * ثم إنكم بعد ذلك لميتون* ثم إنكم يوم القيامة تبعثون).
ففى مراحل خلق الإنسان وحياته تحدث القرآن بين صفحاته النورانية عن ذكريات متعددة لأُناس كُثر، بدءاً من أبو البشر آدم ومروراً بالأنبياء والرسل بل وأحاديث عن المخالفين والكفار
والمتكبرين كالفرعون وقارون وأبى لهب وأبرهه وغيرهم ومع كل حديث تترك الذكريات بصمة لصاحبها وتلك البصمة إما أن تُخلد ذكراه بالخير فتزيد حسناته وهو فى قبره وإما أن
تُذكر الناس بشروره وآثامه فتزيد سيئاته ومن هنا كان على الإنسان أن يكون حريصاً على الصدقة الجارية مبتعداً كل البعد عن السيئة الجارية حتى لا يُحمل نفسه وهو ميت فوق طاقتها فيخرج من باب العفو الإلهى بأعماله وذكرياته التى خلدها فى المنكرات.
ثانياً:
ذكريات الشخصية المصرية والتاريخ المصرى: مصر أم الدنيا بلد الأنبياء بلد العلم والعلماء بلد الأزهر والألف مأذنة أم البلاد وموطن المجاهدين والعباد قهرت قاهرتها الأمم ووصلت بركاتها إلى العرب والعجم كريمة التربة منذ أن وطأ الأنبياء أرضها وهى طاهرة ومطهرة ومكرمة إذا ذكرت مصر ذكرت الجهاد والمجاهدين فصلاح الدين أقام بمصر وأكثر قواده منها وأبرز المعارك مع اليهود قادها مصريون إذا ذكرنا مصر ذكرنا أمنا هاجر ومارية القبطية.. ذكرت أخوال رسولنا وأصهار نبينا هى أم الحضارة ورائدة المهارة ومنطلق الجدارة اتسم أهلها بالشهامة والمروءة والنخوة والرجولة والحب والقناعة تجد المساجد فى الصلوات مملوءة بالعُمار المؤمنين.. الأرض الطيبة التى مدحها الله تبارك وتعالى فى القرآن بعدما طهرها من فرعون وقومه فقال تعالى: (كم تركوا من جنات وعيون * وزروع ومقام كريم * ونعمة كانوا فيها فاكهين * كذلك وأورثناها قوما آخرين).
إن مصر فيها خزائن الأرض قال تعالى على لسان يوسف (قال اجعلنى على خزائن الأرض إنى حفيظ عليم)، وذكر الله تعالى النيل العظيم فى القرآن الكريم (وأوحينا إلى أم موسى
أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه فى اليم ولا تخافى ولا تحزنى..).
مصر التى قال النبى الكريم عن أجنادها خير أجناد الأرض وأهلها هم الذين وصى عليهم النبى – صلى الله عليه وسلم – فقال: "إنكم ستفتحون مصر فأحسنوا إلى أهلها فإن لهم ذمة ورحمة"، وفى لفظ قال "فإن لهم ذمة وصهرا" وأمر النبى العظيم بالإحسان على أقباطها فقال (الله الله فى قبط مصر فإنكم ستظهرون عليهم ويكونون لكم عُدة وعونا فى سبيل
الله ) طالما حدث تآلفاُ بين المسلمين والأقباط فى مصر والنداء الآن إلى المصريين عامة، الإسلام فى بلدنا وجد أعياده وطالما ازدهر فى بلادنا، إن فى أرضنا الواد المقدس طوى وفيها الجبل الذى كلم الله تعالى عليه موسى عليه السلام فيها النيل وفيها الحضارة وبين أهلها الحب فلنعد إلى تاريخ مصر المُشرق ونعود إلى مائدة الحوار بحب وود ونتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه.
وأخيرا: الذكريات العطرة التى خلدها التاريخ :
نحن فى الذكرى الأولى لشهيد الأزهر والأزاهرة وشهيد مصر فضيلة العلامة الأزهرى الشيخ الجليل عماد عفت هذا الذى اصطفاه الله شهيداً- بإذن الله تعالى- له أبناء وبنات وعرق أخضر يمتد فى أعماق هذا البلد طيب الله ثراكم يا شهداء مصر والعرب أنتم فى شغاف القلب لا تهونون.. ذكراكم على جلودنا، مسك ذكراكم مشعل نور يأخذنا للبناء والأمل.
سنة مرت على فقيد الأزهر الشريف والثورة المصرية وأحد أعلام الفتوى العلامة الأصولى اللغوى الفقيه الثائر الشيخ عماد عفت، أمين الفتوى بدار الإفتاء المصرى الذى قال كلماته المأثورة، إننى أشم رائحة الجنة على بعد أبواب ميدان التحرير، الشيخ الذى شهد له كل من كانوا حوله أنه كان ذا لسانٍ عفيفٍ عند الاختلاف، وعلمٍ غزيرٍ عند الفتوى، وتواضع شديد عند التعامل، وسمت أولياء فى إقباله على الله والذى كتب عنه أحد الكُتاب بالأمس أنه شهيد وعالم الثورة بحق، وهو "الثائر الحق" الذى قصده الشيخ الشعراوى، لم يتخلف يوماً عن المرابطة فى ميدان التحرير أيام الثورة الأولى، كما لم يتأخر عن عمله بدار الإفتاء، وتدريس العلوم الشرعية بأروقة الأزهر الشريف، فثار وبنى الأمجاد فى وقت واحد.
فقيدنا عالم الثورة أصدر الآلاف من الفتاوى، التى لا تجد فيها سباً ولا قذفاً ولا إهانة ولا فتنة ولا تسرعاً ولا تجريحاً ولا تحزباً، بل فيها الأدب وقواعد العلم ومراعاة الواقع.
مات عماد الأزهر وظلت روحه باقية بين محبيه ومريديه وتلاميذه كان فقط مشغولاًَ بالعلم وهداية الناس بالأخلاق لرب العالمين فهو باق وحى بموعود الله تبارك وتعالى وبإذنه
وبكلامه (ولا تحسبن الذين قتلوا فى سبيل الله امواتاً بل أحياء عند ربهم يُرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون).
شهيد الأزهر الشريف كان كثير الذكر والدعاء، والصلاة على رسول الله، وظل ينادى.. داعياً الله أن يستجيب لم ينتشر ذيوعه للناس إلا بعد رحيله لكنه صار ذيوعا بذكرى عطرة كلما
ذُكر اسمه ترحم الناس عليه حتى ولو كانوا من غير المسلمين فللشيخ كلام فى منتهى الاعتدال والفهم، كلام يشكِّل إضافةً وإثراءً للفكر الإسلامى والمصرى والإنسانى، لأنه تمكّن من أدوات الفتوى فاستطاع أن يصنعها بدقة، رحمه الله.
أنعيه اليوم فى ذكراه السنوية الأولى إلى الأمة العربية والإسلامية وإلى مصر الأزهر وأسأل الله تعالى أن يرحمه ورفاقه ممن ضحوا بأرواحهم من أجل حرية الأوطان وكرامة الإنسان رحم الله شهداء مصر الأبرار وألحقنا بهم مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسُن أولئك رفيقا، جهز لنفسك ذكرى من الآن تصنعها أعمالك وتاريخك وحياتك.. عودوا على الحق ووحدوا الصفوف.. تعالوا نتواضع ونتنازل ونكون نسيجاً واحداً.. تعالوا نتمنى الخير لمصر للعرب وللمسلمين فى سائر بلدان العالم الحق أحق أن يُتبع.. اللهم أرنا الحق حقا ,ارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه.. ربنا هب لنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا.
