الفكرة فى خدمة الشعوب، قد تصبح مأزقا.. والديمقراطية أو (الآلية السهلة لعملية الاقتراع المباشر) لا تعبر عن نفسها بيسر الفكرة التى اعتنقتها الجماهير عندما احتشدت تحت شعار واحد (الشعب يريد إسقاط النظام)، فهى لا تشى بما وراءها من تعقيدات.
العقدة الأولى تصدرت المشهد فى العديد من الدول العربية، وتكمن فى قنبلة عنقودية انفجرت فى النسيج الاجتماعى، وولدت صراعا طبقيا أفقيا ورأسيا. فلم يتخيل البسطاء منا أن الديمقراطية، هذه العصا السحرية، سوف تولى نكبة تلج بالوطن إلى نفق مظلم.. والإشكالية التى باغتت الجميع، هى التشرذم الاجتماعى الحاد الذى لا يقف عند حدود طائفية أو دينية، بل شمل فى معادلته، التباينات بين المدينة والريف، وخيارات جغرافية وقبلية.
كشفت الديمقراطية الملتبسة، هشاشة البنية الاجتماعية، وقابليتها للتشظى، تحت أى طارئ، وفى سبيل مشادة كلامية بين تيارات سياسية، وخلقت بالتالى فوبيا من آثار الديمقراطية لدى شعوب تقف مرغمة فى طابور ما يعرف بـ "الربيع العربى".
والعقدة الثانية، تجلت فى مصر، وقبل ذلك لبنان، وهى الأخطر مما يواجه ديمقراطية خداج، تتمحور حول "توازن الكتل"، الذى قد يفضى إلى جمود، وبالتالى تحول العملية السياسية إلى ما يمكن تسميته اصطلاحا بـ "ديمقراطية متنازع عليها"، مما يجعلها عاجزة عن تفعيل الإجماع حول منظومة توافقية للأسس العملية السياسية والاقتصادية والاجتماعية للمراحل المقبلة.
وإذا ما أخذنا فى الاعتبار أن الديمقراطية فى جوهرها تنحاز إلى مبدأ الحسم، لا سيما أن الأغلبية تسود، والأقلية تقبل بخياراتها وفق دستور يضمن لها حقوقها الأساسية، فإن توازن القوى فى باكورتها لا ينبئ بفحوى الديمقراطية الغضة التى تفترض قبولا بمبدأ بناء مؤسسات الدولة ضمن معايير جديدة، لكن قد تقر بها فى مرحلة متقدمة، تكون الائتلافات حلا نموذجيا لها.
وتحولت الديمقراطية العربية الوليدة من رحم عقود من الحرمان السياسى، إلى معركة شرسة على السلطة، يستخدم فيها الفرقاء، الشارع ذخيرة حية من خلال إطلاق شعارات لا تعبر عن برامج البناء، بقدر ما تقوض نقيضها، وتظهر علل الآخر.
من هنا ندرك أن الديمقراطية، ليست وصفة حلول جاهزة، وإنما أداة كغيرها تأخذ شكلها عبر محتوى بشرى يحدد ملامحها، والعربة التى وُضعت أمام الحصان، كانت تعبّر عن الاختلال فى فقه الأولويات، من خلال التركيز على علاقة الشعب بالنظام، قبل الالتفات إلى علاقات بينية فى المجتمع نفسه قد تصبح قنبلة موقوتة فى حال شُرّع الباب على فردوس الخيارات المجانية، وسلع كلامية جاهزة مغرية لشعب أضناه الجوع.
وعنونت العقدة الثالثة التجربة العراقية، عندما تحول المناخ الديمقراطى إلى ساحة تصفية حسابات، واستغل البعض، التفوق العددى، وظروف التمثيل الانتخابى فى ملاحقة خصوم الأمس، وأعطى ظهره لقداسة بناء الدولة، وأضاع الوقت فى معارك ثأرية وعبثية، أوجدت صدعا فى جسد البلاد، ومهدت لانقسام وشيك.
أما أكثر تلك العقد خطورة، فتكمن فى إعادة إنتاج شريحة سياسية مناظرة لتلك الطبقة الفاسدة التى أسقطها الشعب، أو المحتل أو الظروف الدولية.. حقيقة بائسة تفرض نفسها دائما من خلال غياب أحزاب وحركات متمرسة تصدّر المصلحة العليا على حساب رغباتها الفئوية الملحة للاستحواذ على السلطة.
تضع هذه العقد أسئلة مشروعة حول ما نريده، وما يريده الآخرون فى الوطن الواحد، وشكل العقد الاجتماعى الجديد بعد تبدل الجين المكون للدولة.. خاصة وأن القبضة الحديدية التى حكمت من خلالها نظم تتوليتارية، كانت قد حجبت هذا الكم الهائل من الشروخ الاجتماعية.. والسؤال اليوم، هو إلى أى مدى تتحلى النخب السياسية البديلة بالمشروعية والنضج، لموازاة سقف المسئولية المطلوب لشكل نظام حكم يأخذ فى الحسبان التركيبة المتنوعة للمجتمع، ويطوق هذه الصورة الفسيفسائية فى دائرة وطنية جامعة ومستحقة؟ وإلى أن يحين ذلك، ستظل الديمقراطية محكومة بقانون تساوى القوى الفيزيائي، فتتحرك وفق جاذبية مركزية، تسمح لها بالدوران حول نفسها، دون أن تحركها سنتيمترا واحدا إلى الأمام.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
نسرين
الديمقراطية وعصا الساحر