يوسف عوف

دستور الترضيات السياسية

الخميس، 20 ديسمبر 2012 07:10 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
كما هو متوقع، خرج مشروع الدستور الجديد بالكثير من المثالب والعيوب التى تظهر جليا للمتأمل فى نصوصه من جوانبها المختلفة، أحد هذه الجوانب أن عددا من المواد الواردة بذلك المشروع جاءت كترضية سياسية لفئات أو جهات محددة. وقد تمثلت هذه الترضية السياسية فى عدة أشكال، فتارة هى استرضاء طائفى زائف كالمادة الثالثة، وتارة هى منحة غير مستحقة كالمادة 195، وفى موضع آخر كانت الترضية فى شكل رشوة انتخابية كالمادة رقم 229، ولبيان ذلك سنفرد السطور التالية.
نصت المادة الثالثة من مشروع الدستور على أن مبادئ شرائع المسيحيين هى المصدر الرئيسى للتشريعات المنظمة لأحوالهم الشخصية واختيار قياداتهم الروحية. المتابع لشئون المسيحيين المصريين، فى كافة جوانبها، يدرك تماماً أن هذه المادة ما وضعت فى الدستور إلا كاسترضاء طائفى مصطنع للمسيحيين المصريين. فالمعلوم يقينا أن للمسيحيين المصريين، على اختلاف مذاهبهم وطوائفهم، قوانينهم الخاصة التى تنظم أحوالهم الشخصية منذ عشرات السنين، وهى القوانين المطبقة فى المحاكم المصرية بشكل مضطرد مستقر وبلا أى منازعة من أى طرف. وهذا هو الحال نفسه بشأن اختيار القيادات الروحية للطوائف المسيحية المختلفة، إذ للكنيسة مطلق الحرية فى تنظيم شئونها الداخلية. فما هو الجديد الذى أتت به هذه المادة؟ المشكلة فى هذا النص أمران أساسيان، الأول أن هذا النص يعد تدليسا لإيهام المسيحيين أن ثمة جديد أتى به ليضمن حقوقهم، فى حين أن، وهذا هو الأمر الثانى، ما يحتاج إليه المسيحيون بشكل حقيقى، شأنهم فى ذلك شأن المسلمين، هو الإقرار الكامل بحقوقهم وحرياتهم إقرار ينتقل من صفحات الدستور إلى واقع حى يعيشه الناس، واقع يسوده عدل حقيقى وحرية حقيقية ومساواة حقيقية.
استقرت الدول والنظم الديمقراطية على أن القوات المسلحة يجب أن تخضع خضوعا كاملا للإدارة المدنية المنتخبة، ولذلك فالمستقر عليه أن رئيس الدولة هو القائد الأعلى للقوات المسلحة وأن وزير الدفاع يعين من الشخصيات المدنية لا العسكرية. نتيجة للحكم العسكرى لمصر - منذ العام 1952 - فقد استقر العرف (لم ينص على ذلك فى دستور أو قانون) أن وزير الدفاع يكون دائما من العسكريين. وإذ نجحت الثورة المصرية فى إزاحة الحكم العسكرى، إلا أن واضعو مشروع الدستور أصروا على أن يعود الزمن للوراء، فلم يكن يكفى أن وزير الدفاع المصرى، بطبيعة الحال وبحكم ظروف المرحلة الانتقالية، من العسكريين بل وضعوا تلك القاعدة (المادة 195) فى صلب الدستور نفسه؟؟ قد يقول قائل إن الظروف السياسية لا تسمح باختيار مدنى كوزير للدفاع، فإذا وافقنا على ذلك ــ كافتراض جدلى لمدة انتقالية معينة ــ فما هو الدافع للنص على ضرورة أن يختار وزير الدفاع من العسكريين فى متن الدستور؟ لا أرى فى ذلك غير استرضاء للعسكريين، من جانب السلطة السياسية، أريد به اتقاء شر المؤسسة العسكرية، وبديهى أن الوثائق الدستورية توضع من الشعب ليحكم نفسه بنفسه، ولا توضع لتكون محلا لصفقات أو مساومات سياسية.
كانت الدساتير المصرية، منذ دستور العام 1964 إلى الإعلان الدستورى الصادر فى مارس من العام 2011، تنص على تخصيص نصف مقاعد البرلمان للعمال والفلاحين. وقد كان هذا الوضع محل انتقاد شديد من غالبية القانونيين والسياسيين على السواء، انصب النقد لهذه القاعدة على مسألتين؛ أن فى ذلك النص تمييزا صارخا وإخلالا بمبدأ المساواة بين المواطنين، إذ إن تخصيص نسبة معينة من مقاعد البرلمان على أساس الدين أو المهنة أو الجنس أو الطبقة الاجتماعية إنما يمثل اعتداء على حق الفئات الأخرى فى المساواة من ناحية وإهداراً للقاعدة الأهم فى مجال الممارسة الديمقراطية وهى "الانتخاب على أساس الكفاءة" لا على أى أساس آخر من ناحية أخرى. أما المسألة الثانية فهى أن ذلك النص لم يضمن أى حماية حقيقية للعمال والفلاحين الذين تدهورت أحوالهم، كسائر المصريين، على امتداد نصف القرن الفائت. كما أن هذه النسبة المخصصة للعمال والفلاحين كان يساء تطبيقها من الناحية العملية فكان يدخل فى هاتين الفئتين (العمال والفلاحين) من ليس منهم فى الوقت الذى يصعب بشدة على العامل أو الفلاح الحقيقى أن يدخل إلى البرلمان لضعف إمكانياته ولفساد العملية الانتخابية برمتها.
لكل ما تقدم كانت الجمعية التأسيسية قد استقرت على استبعاد هذه النسبة المخصصة للعمال والفلاحين من مشروع الدستور الجديد، غير أن المفاجئة جاءت، لا فى الأسابيع أو الأيام الأخيرة، بل فى الساعات الأخيرة من عمر الجمعية، حيث اقترح أحد الأعضاء ـ فى الثالثة من صباح اليوم الأخير للجمعية ـ أن يعاد النص على هذه النسبة فى مشروع الدستور، وفى دقائق معدودة وبعد مناقشات قليلة وسطحية للغاية أعيد النص على تلك النسبة وذلك لدورة برلمانية واحدة حسب ما جاء فى المادة رقم 229 من مشروع الدستور. لا أستطيع أن أفهم، أو أقبل، الطريقة التى أعيدت بها هذه المادة إلى الدستور، أو السبب الذى أعيدت من أجله، إلا بأنها محاولة، غير مقبولة بكل المقاييس، لاسترضاء قطاع عريض من المجتمع المصرى وهو استرضاء يمثل رشوة انتخابية وذلك لضمان تمرير مشروع الدستور والتصويت عليه بنعم. فقد فطن واضعو الدستور، فى اللحظة الأخيرة، أن استبعاد نسبة الخمسين بالمائة للعمال والفلاحين قد تعرض المشروع بكامله للرفض عند الاستفتاء عليه. يؤيد هذه الوجهة من النظر أن المادة 229 قررت أن يطبق ذلك النظام لدورة انتخابية واحدة وهو ما يكفى للتدليس على العمال والفلاحين وضمان تمرير الدستور. من غير المقبول أن يكون العقد الاجتماعى الجديد للأمة المصرية محلاً لرشى سياسية وتلاعبات من هذا النوع، وهو ما يكفى، فى تقديرى، لا لرفض مشروع الدستور فحسب، بل لإدانة واضعيه أيضاً.


* باحث دكتوراه فى القانون الدستورى والنظم السياسية- جامعة القاهرة.





مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة