كيف يمكن أن تقبل النخب المصرية أن تظل قابعة متمترسة خلف مواقفها الجامدة،ز وهى تدفع بوعى أو بغير وعى شباب مصر، أغلى ما نملك، إلى صراع دموى. هناك أسلوبان للتعامل مع أى أزمة: إما بذل الجهد لإدارتها والسيطرة عليها، وإما العمل على حلها، وبالطبع هناك أسلوب ثالث هو إهمال الأزمة وإغماض العين عنها، وفى الواقع لا يعد الأسلوب الأخير تعاملاً مع الأزمة ولذلك سوف نطرحه جانباً، ولو أنه يبدو التحليل السليم لسيكولوجية صنع القرار خلال الفترة السابقة، حيث الخروج من الأزمة هو تجاهل وجودها أو محاولة الهروب منها إلى الأمام بما يزيد من تعقيدها. لننظر كيف أدارت الرئاسة أزمة الدستور التى تمثلت بدايتها فى خلاف حاد حول أسلوب اختيار الجمعية التأسيسية وتشكيلها الذى جاء وكأنه تحد لحكم قضائى سابق، وبدلا من أن تسعى الإدارة إلى البحث عن حلول توافقية مع المعارضة الواسعة التى اشتملت على كل ألوان الطيف، أو على الأقل تتماشى مع اقتراحات أولئك الذين ارتضوا البقاء داخل الجمعية حتى الأسبوع الأخير، بدلاً من ذلك، فوجئ الشعب بإعلان دستورى أقل ما يوصف به أنه يؤسس لديكتاتورية جديدة، وينتهك السلطة القضائية، بل ويستمر العناد كى يصل إلى مواجهة المتظاهرين السلميين مواجهة خشنة سالت فيها دماء المصريين.
نجد الفصيل المناصر للرئاسة يتصدر المشهد بخطاب يتلخص فى فكرة «تطبيق الشريعة»، مع غياب كامل لأى محتوى سياسى أو اقتصادى أو فكرى.. مجرد شعار ساخن لإلهاب المشاعر ودفع الشباب إلى الصدام.. وهو توجه خطير قد يودى بالمجتمع كله إلى مخاطر عديدة.
ولقد أتاحت لى ظروفى أن أقترب من أوضاع السودان بالشكل الذى يسمح لى برؤية أخطار مماثلة، فقد التقيت مع جون جارنج مرتين، استمرت إحداها فى كمبالا قرابة ساعتين، كما التقيت ببعض شخصيات قيادية مثل غازى صلاح الدين، ومصطفى عثمان ولام أكول وزير خارجية السودان الأسبق.. ودون التعرض لمعلومات لا تزال لها سريتها وخصوصيتها، فقد سمعت من بعض القيادات السودانية الشمالية قبل الانفصال تحبيذهم لإنفصال جنوب السودان، حتى يخلو لهم شماله لتنفيذ مشروع الدولة الإسلامية النقية، بل إن قيادة بارزة قالت لى بغير تحفظ: «ما هى المشكلة فى ترك قطعة أرض يعيش فيها الكفار.. يا أخى السودان لديه مساحة كبيرة من الأرض»، وفى مواجهة تحفظاتى قال بفصاحة وكأنه يفحمنى: «يا أخى السودان انفصل عن مصر، ولم تنهر مصر».. بينما أتذكر حرص جارانج على مشروع السودان الجديد الواحد، وكان يرى قوته فى تنوعه. أن النموذج السودانى يتحدث عن نفسه، لأنه تحت نفس الشعارات دخل الشعب السودانى فى حرب أهلية دامية بلغ ضحاياها ما يزيد على 2 مليون نسمة، وانقسم السودان إلى سودانين، ولا تزال الأوضاع فى دارفور تهدد بالمزيد من الخسائر، بينما تأثر الاقتصاد السودانى وانهارت خطط التنمية، رغم الثروة البترولية والمساحات الشاسعة من الأراضى الخصبة. لقد كان من المدهش أن الرئاسة قد رفضت أى اقتراح بتأجيل الدعوة إلى الاستفتاء، كوسيلة لتبريد الأزمة وتخفيف الإحتقان، بما يسمح بتعديل فى تشكيل الجمعية التأسيسية وصولاً للتوافق حول المواد المختلف عليها، ومن ناحية أخرى فقد واصلت القوى السياسية الحشد والتعبئة الجماهيرية فى محاولة لإقناع الرئاسة بعدم جدوى جمود موقفها، وتقديرى أن الطرفين وصلا إلى نقطة الصدام التى لن يخرج منها أى طرف منتصرا، بل إن النتيجة الواضحة هى الخسارة للطرفين.
ومع ذلك أتصور أن الفرصة لا تزال متاحة للمراجعة، وهذه المراجعة لا تعنى التراجع، بل مجرد محاولة مخلصة لتفهم الطرف الآخر، فلا زلت أرجو أن يتفهم تيار الإسلام السياسى أن المعادلة فى مصر مختلفة، فالقاهرة ليست كابول، وميدان رابعة العدوية ليس قندهار، وشعب مصر ليسوا كفار مكة، وأرجو كذلك أن تحترم باقى الأطراف قواعد اللعبة الديمقراطية، وأن تكون مثالاً يحتذى، فلا يجوز مثلاً التشكيك فى شرعية الرئيس، لأنه فى مجال التنافس السياسى يمكن أن تنتصر أخلاقياً على أسوأ خصومك، فما بالك بأبناء جلدتك ومواطنيك.
لقد اخطأت الرئاسة حين ظنت أن أسلوب اختطاف السلطات وإرهاب القضاء سوف يجبر خصومها على الركوع، كما كانت «غزوة الاتحادية» خطأ فى التقدير، وخطيئة فى التنفيذ يتحمل مسؤوليتها كل من فكر ودبر وحرض، ويكفى هنا أن أقتبس من بيان مجلس الدولة ما جاء فيه من أن «الإعلان الدستورى.. يمثل عدواناً صارخاً على مبادئ الشرعية الدستورية والقانونية»، وإذا كان ذلك هو رأى مجلس الدولة، فإنه كان ينبغى على صانع القرار أن يدرك أنه قد تجاوز كل الخطوط الحمراء، بما يهدد مشروعية نظام الحكم نفسه. لقد وصلت الأزمة إلى مرحلة تزايد فيها تصلب المواقف التفاوضية لكل الأطراف وتضاءلت فرصة وجود مخرج يحافظ على ماء وجه أى من الأطراف، وقد تسبب فى ذلك التصور الخاطئ من الإدارة للقدرة الذاتية على حسم الأزمة وعدم وجود وساطة فعالة ومقبولة للأطراف، أو فشل هذه الوساطة لأسباب تتعلق بالوسيط أو بالأطراف نفسها، بما أدى إلى ازدياد الضغوط الداخلية بالشكل الذى لا يتيح للأطراف التراجع عن هذه المرحلة إلا بخسائر سياسية كبيرة. وهنا يجب البحث عن مخرج، وربما كان يتمثل هذا المخرج فى اختبار عوامل الأزمة المختلفة ومحاولة إقناع كل طرف بعدم جدوى التصعيد، مع التقدم بمبادرة تدفع للقبول بحل تفاوضى، مع إثبات أن الحل التفاوضى يحقق لكل طرف قدراً من مطالبه، ويجب أن يشمل ذلك إغراء كل طرف بمكافآت قد ينالها إذا تقدم بتنازلات فى هذه المرحلة، وهى مكافآت قد لا تصبح موجودة إذا انتقلت الأزمة إلى مرحلة أخرى متقدمة.
وفى تقديرى، فإن الأزمة قد وصلت إلى الحد الذى قد لا يتيح ذلك المخرج الآمن، وربما المطلوب الآن هو الإدارة الحكيمة للأزمة خلال الفترة القادمة، ويكون الدور الفعال هو محاولة حصر الأزمة وعدم السماح بتشعبها، والدراسة الدقيقة لإمكانيات التوصل إلى بناء توافقى لمرحلة ما بعد الاستفتاء أياً ما كانت نتيجته بحيث يضمن كل طرف القدر الممكن من تقليل الخسائر، ومنع تجدد نشوب الأزمة فى حالتها الأولى بتحركات سياسية تتكيف مع النتائج مع محاولة تحسينها بكل الحلول المتاحة.