كانت جدتى – رحمها الله - كثيرة الحكى عن المعاناة التى عانتها لكى تربى والدتى وإخوتها..
وكانت تسهب وتطنب فى سرد القصص والمواقف العصيبة التى عاشتها فى ظل نظام الملك فاروق وعدم العدالة الاجتماعية وكيف أخذوا أخاها «محمد» إلى الجهادية «التجنيد الإجبارى» وكانت لا تراه طيلة العام إلا مرة واحدة على الأكثر وكيف ترمّلت وهى صغيرة وكانت تذهب إلى مكتب البريد لتأخذ معاش جدى فى فترة حكم جمال عبدالناصر وكيف كانت تستيقظ باكرا لتحمل أصغر خالاتى على كتفها وتذهب بها إلى المدرسة وهى صغيرة وكانت خالتى – والتى أصبحت مديرة مدرسة فيما بعد – ترفض الذهاب إلى المدرسة وهى ترى أترابها ومثيلاتها فى السن يذهبن إلى المدرسة بصحبة آبائهن على حين لم ترَ هى أباها الذى توفى وهى فى الثالثة من عمرها.
أمى أيضا – رحمها الله – كانت كثيرة الحكى عن معاناة جيلها الذى عاصر ثلاث حروب متقاربة وعاشت فى شظف هذه الحروب واضطرت أن ترتدى الزى العسكرى وتحمل السلاح والانضمام لفرق المقاومة الشعبية تحت إشراف الجيش المصرى سنة 56 وسنة 67 حيث كان الجيش يقوم بتجنيد النساء المتعلمات آنذاك ويضمهن لسلاح «الفتوة» وهو سلاح تابع لجبهة المقاومة الشعبية فى فترة حكم جمال عبدالناصر.
أبى أيضا كان لا يملّ من سرد القصص والحكايا المتعلقة بمعاناته فى عمله والمواقف العصيبة التى تعرض لها فى عمله فى ظل غياب العدل والمساواة والحماية فى المؤسسة الحكومية وكيف كان يسافر كثيرا ويقوم بمأموريات فى بلدان كثيرة ومديريات عديدة وكيف عانى من سوء المواصلات وأقام ليالى بأكملها فى محطات القطارات بالأرياف أو فى الحقول أو فى ديار أهل البلد كعابر سبيل فى انتظار وسيلة مواصلات تقله إلى مكان المأمورية المكلف بها.
كانوا جميعا يحكون لنا هذه الحَكايا ليحفزّونا على المذاكرة وعلى الصلاة وعلى الإكثار من الشكر والحمد لله عز وجل على الحياة المترفة التى نحياها كلّما لاحظوا منا بعض مظاهر الكسل أو التراخى أو التأفف تجاه بعض الصعوبات التى تواجهنا.
هذه القصص والنوادر خلقت عندى شعورا بأننى شخص محظوظ. وأننى لم أكن سأحتمل الحياة فى ظل الظروف التى عاشوها هم.. لم أكن سأحتمل أن أذاكر فى الشارع على ضوء «عامود النور» ولم أكن سأحتمل تعبئة المياه من الصنبور الذى فى الشارع يوميا فى الصباح وتخزينها لاستخدامها طيلة اليوم.. لم أكن سأحتمل فترة تجنيد غير محددة ولم أكن سأحتمل نظام التحرى الخاص بالشرطة والذى كان يسمى «كعب داير» والذى تم إلغاؤه بعد دخول أجهزة الكمبيوتر إلى وزارة الداخلية المصرية.
لقد تغيرت مظاهر الحياة فى مصر فى الثمانينيات والتسعينيات كثيرا عن السبعينيات وما قبلها.. ولهذا أعتبر نفسى أحد المحظوظين لأنى ولدت فى هذا الجيل الذى لم يعانِ معاناة الجيل الذى قبله.
الغريب أن آباءنا وأجدادنا عندما يتحدثون عن معاناتهم يتحدثون بنوع من المتعة الخفية والغريبة وينعتون أيامهم الخوالى بأنها كانت أفضل وأحسن حالا وأكثر «بركة» من أيامنا الحالية رغم قساوة أيامهم ورفاهية أيامنا.
والسؤال.. هل سيصف أبناؤنا أيامنا هذه بأنها أصعب وأثقل من أن يحتملوها؟
وكيف سنروى نحن الأحداث الكثيرة والمتلاحقة التى نمر بها حاليا لأبنائنا؟
أتخيّل نفسى وأنا أحكى لابنتى «مريم» كيف قمنا بثورة يناير وكيف تشبّعت أجسادنا برائحة الغاز المسيل للدموع وكيف وقفنا فى اللجان الشعبية وكيف تعرضت مصر – لأول مرة – لانقسام فكرى سياسى وصل إلى التقاتل فى الطرقات وكيف تم تشويه جميع رموز الثورة بعد نجاحها بشهور معدودة وكيف تحول المجتمع المصرى لمجتمع لا يجيد إلا إطلاق الشائعات وتشويه الآخر.
أتخيل ابنتى وهى تعتبر نفسها من الجيل «المحظوظ» الذى لم يعش هذه الثورة.. وأطرد الفكرة من ذهنى بسرعة البرق وأحاول أن أظل متفائلا ومتعشما فى وجه الله تعالى أن يتم ثورتنا على خير وأن تحقق ثورتنا أهدافها التى قامت من أجلها.
أظل متفائلا ومؤمنا بهذا الشعب وأن ما نمر به الآن هو مجرد فترة مؤقتة يتعلم من خلالها الشعب المصرى ما لم يتعلمه طيلة سنوات من القمع والصمت والخوف.. وأظل مصرّا على أن هذا الشعب يستحق نعماء الحياة وأن تاريخه يشفع له ليحيا الحياة التى يرضاها ويسعى لها.
هشام الجخ
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
عمران
النكسه
عدد الردود 0
بواسطة:
محمد هشام خطاب عقيلي
تحية وعتاب ل هشام الجخ - المصري المبدع الأصيل -ثورتنا مستمرة
عدد الردود 0
بواسطة:
هيما
شوف التعليق تحت
عدد الردود 0
بواسطة:
محمد اسكندر
ومن اين تاتى البدايه
عدد الردود 0
بواسطة:
ذكرى عامر
من يقرء تاريخ مصر لان يياس ابدا
عدد الردود 0
بواسطة:
abdallah
فعلا هي مائة عام
عدد الردود 0
بواسطة:
yasser
كتبت فأحسنت
عدد الردود 0
بواسطة:
رضا عطا _ الكردي دقهلية
رحماك يارب بمصر والمصريين
عدد الردود 0
بواسطة:
مجدى السيد
أرحموا ************** مصر
عدد الردود 0
بواسطة:
رضا عطا _ الكردي دقهلية
وأنا معك