للتربية وزن اجتماعى عظيم لأن الإنسان ككل عضوى قابل للتأثر والانفعال، ولأنك إذا أحطت الطفل أو الفرد بمجموعة من البواعث وإذا طبقت عليه بعض النظم فلابد أن ينشأ الطفل أو الفرد بحسب هذه البواعث وتلك النظم . وقد تفننت كل أمة من الأمم فى طبع أفرادها بالطابع القومى الخاص الذى تختاره ؛ فبعضها يصطنع العنـف وبعضها اللين وكل واحدة منها تترسم خطة خاصة لتربية المواطن . وانحدر فى أصول التربية عنصران : أولهما العنصر الفردى وثانيهما العنصر الاجتماعى . أولهما يدعو المربى إلى أن يساير ميول الفرد ووجداناته وثانيهما يؤيد الحياة الاجتماعية التى يحياها ذلك الفرد . الأول يظهر فى إنتاج العلم وتجويد البحث وثانيهما يظهر فى تلك التربية الخلقية التى تكبر من الجماعة فى نفس الفرد . والمدرسة هى المكان المعد الذى يصاغ فيه تفكير أمة من الأمم ويهيأ كيانها . وقد كانت عند المربين قطعة من الحياة العامة تنبعث منها الحريـة إذا أريد بها ذلك ويصدر عنها النظام إذا أخذت بالنظام . والحق أن (الثقافة) هى التى كانت تميز كل أمة عن الأخرى . إنها هى ما يحسه الإنسان إذا هو حاول أن يميز تمييزاً صحيحاً بين ما تفعله هذه الأمة وتلك الأمة الأخرى . ووحدة الثقافة أيضاً هى التى تميز أجزاء الدول العربية على الرغم من تفككها السياسى . ووحدة الثقافة ينبغى أن تكون هى الأصل فى جهودنا نحو الوحدة العربية . نريد أن نحلل ماهية الثقافة ونريد أن نرى الثقافة القومية فى ضوء الثقافة العامة ونريد أن نثبت أنه لابد من وجود ثقافة قومية على أن تشتق وجودها من ثقافة عالمية عامة . وقد اختلف الكثيرون فى أمر الثقافة . وذهب بعضهم إلى أنها مرادف للأدب ، وذهب بعضهم إلى أنها مرادف للعلم ، وذهب بعضهم الآخرون إلى أنها مرادف للتربية . والحق أن الثقافة ليست قاصرة على الأدب وحده ولا على العلم وحده ولا على التربية وحدها بل هى شاملة لهؤلاء جميعاً . إنها أساس يرتكز عليه الأدب والعلم والتربية لأنها تتصل بكل فكرة أساسية فى الوجود . وهذه الأفكار الأساسية لا تعرف حدوداً ولا تقف عند أمة من الأمم ولا عند طبقة من الطبقات ؛ بل ينبغى أن تمتاز الثقافة بألا تنظر إلى مصالح قوم دون قوم ، وبألا تفيد أمة دون أمة . فالفكرة فى أسمى معانيها تمتاز بأنها موضوعية غير ذاتية . تمتاز بأنها لا تتأثر بالدوافع النفسية ولا بالشهوات الدنيا . ولكن أين تكون الثقافة القومية من كل ذلك ؟ وإذا كان الأصل فى الثقافة أن تكون عالمية . فما معنى أن تكون عالمية وقومية فى نفس الوقت ؟ لقد أثبتنا أن لكل قبيلة ولكل أمة ولكل مجموعة من الأمم مزاجاً خاصاً . ولم يخلق المجتمع الإنسانى أمة واحدة فقد تأثرت كل جماعة بالعوامل المادية والروحية . لن تكون الثقافة القومية ثقافة أصلية إلا بمقدار ما تشترك به الأمة من جهد فى تطور الثقافة العالمية. فإذا كان لأمة من الأمم قسط وافر من خلق هذه الأفكار الأساسية وقسط وافر من البحث العلمى الخالص ومن الأدب الرفيع السامى ومن الدين القويم، ثم إذا كان لها قدرة على تمثيل هذه الثقافة العالمية بمختلف وجوهها،عادت ثقافة هذه الأمـة أصليـة صادقـة .
