كثيرًا ما كنت أحلم بأن يكون لنا فلسفتنا الخاصة، طريقنا المميز فى التفكير، رؤيتنا الحصرية التى تمايزنا عن كل العالم. ونحن بلا شك مميزون فى أمور لا حصر لها، تستطيع أن تعرف هذا بزيارتك لأى بلد كافر كبلاد الغرب وأمريكا، فالمصرى أو العربى بصفة عامة مميَّز جدًا وتستطيع أن تعرفه وتميِّزه من وسط مليون شخص، فهو الوحيد الذى لا ينشغل إلاَّ بمن حوله، فخصوصيته تكمن هنا، عند الآخرين وفى شئونهم! وهو الوحيد الذى يقيس الناس بمقياس الجسوم وأبعادها وأطرافها وخاصة أطرافها! أما مقاييس كالفكر والعقل والرؤية والتقدم والنبوغ والعبقرية، لا قيمة لها عنده.
وأضفنا إلى كل هذه المميزات مزيَّة خاصة جدًا هذه الأيام، وهى خاصيَّة العدد Number فراح فئة من المصريين يقيسون كل شىء بمقاس العدد وحده وأقنعوا الكل بهذه النظرية المقيتة، وعلى غرار التساؤل السقراطى يقولون لك: "قل لى كم تستطع أن تحشد فأقول لك من أنت" بقطع النظر عن جودة الحشود ونوعيتها، فاللعبة مقياسها الوحيد هو العدد أو الكم. وهكذا ينسحب نفس المعيار على الانتخابات، اتذكر أننى سألت بواب العمارة من ستنتخب؟ فقال برد معلَّب: "اللى ماشى!" يعنى من لديه أعداد أكثر، فضربت خدعة العددية (وليس التعدُّديَّة) بجذورها فى قلب وفكر المواطن المصرى بعد الثورة وربما كانت موجودة من قبل ولكن نبَّر عليها فئة معينة وضحكوا على البسطاء بها، ويقولون لك أنها الديمقراطية. رغم أن مقاييس الديمقراطية شيء آخر تمامًا.
وكما يقول كنيدى: "جهل ناخب واحد فى نظام ديمقراطى يضر بأمن المجتمع كله" فهل لك أن تتخيل كم نسبة الأميين الذين لهم حق التصويت عندنا، ويتساوى صوت أخى البواب الفاضل مع صوت الدكتور الجامعى الذى ربما قضى أناة الليل يبحث فى البرامج الحزبية المطروحة ويحللها ويفحصها ليقرر لمن سيعطى صوته. راح تعبه وسهاده أدراج الريح، فقد تساوى مع شخص تم توجيهه وأُملى عليه صوته.
وقد طرحنا رؤية من قبل، أن يكون لغير المتعلم صوت فهذا حقه المصون وغير الممسوس، لكن أضفنا أن يكون للمتعلم صوت مضاعف. لا أدرى ما هى الآلية لتنفيذ ذلك، لكن أنا على يقين أن هذا سيثير غضبة كل من القادة والمُنقادين الحاشد والمحشود. وبالمناسبة أنا لا أدين القادة الحاشدين الذين يحشدون الناس، بل المُدان هنا هو من ارتضى أن يُحتشد وكأنه "غنمة" فى القطيع، وهذا لا عجب فيه، فرجل لا يعرف كيف يسوس حياته لابد أن يسلمها لغيره ليقودها ويسلبه حريته وإرادته، والعيب على من سلَّم نفسه طيِّعة ليِّنة حتى يكون من أحاد الناس وعوامها ويفقد شخصه البشرى المتفرِّد.
فأنا ضد "المَحشُودين" أيًّا كانوا وحيثما وكيفما يكونوا، ولا أوافق على أقصى تقدير إلاَّ على من يحتشد برغبته وإرادته دون أى تأثير من أحد. كفوا عن عبثية العدد المريضة هذه، وكفاكم تهويلاً وتهوينًا من خلالها، انتم تقودون الفكر المصرى للعطب والمرض، وتهيلونا علينا الظلمات فتضحك من جهلنا الأمم.
المعيار هو الجودة والكفاءة، فشخص واحد عالم مطلع متبصر أفضل من مليون شخص جاهل منقاد محشود. وبمعادلة أخرى فإنَّ عدديَّة مليون محشود لا تساوى أكثر من تعدَّديَّة شخصين محتشدين، (أضع هنا العدديَّة مقابل التعدُّديَّة) فكفاكم تعويلاً على العدد كفاكم تصديرًا لفكرته المريضة. وكلما حشدتم واحتشد البسطاء كلما انتُقص من قدركم وقدراتكم. وكلما عظَّمنا من فكرة العدد حقَّرنا وقزَّمنا من معيار الجودة والتفرُّد والتميز، وراح الشخص البشرى وراحت كرامته وضاعت حقوقه، وهذا مردَّه إلى نسيانه فى الخضم البشرى المحتشد.
وإن كانت البرجوازية هى سيطرة طبقة واحدة على المجتمع وعمَّاله ومنتجيه اقتصاديًا، فأنتم الآن تصنعون برجوازية دينيَّة من شأنها أن تتحول إلى برجوازية رأسمالية وإقطاعية جديدة. وأنتم تشيدون صرحًا ماديًا ماركسيًا جديدًا، وإن كان ماركس قزَّم من الفردانية والشخصانيَّة، وأنكر دور الفرد ومزيَّته وتفرُّده، والفرد عنده، أن هو إلاَّ تُرس فى آلة المجتمع، وأهميته تكمن فى أنه دعامة هذه المجتمع؛ دعامة عددية! احتاجها فى صناعته الاشتراكية ورؤيته الكوزموبوليتيَّة وثورته البروليتاريَّة. فأنتم تصنعون الشىء نفسه لكن بوسائل ومنطلقات أخرى! هذه خطورة نظرية العدد التى تحاول فئة من المصريين تصديرها لهم وللعالم من حولنا.
فليتوقف صراع العدد وننتقل إلى إمَّا حوار الفكر أو حراك الثورة، أما لغط العدد فمآله إلى تهديد الثورة وتشويه الفكر المصرى وتقويض دعائم التفرُّد الشخصانى والحضارة المصرية التليدة.
