تشبه لجنة إعداد وصياغة الدستور المصرى لعبة السودوكو المنتشرة بين الشباب والسيدات المصريات وبعض الموظفين الإداريين بالدولة فى أوقات العمل الرسمية، معلنين جميعاً رفضهم لمشروع نهضة البلاد والعباد أو عنداً وتحدياً لخطط الرئيس الشرعى المنتخب فى إعمار الوطن.. ووجه الشبه بين اللعبة واللجنة أن كلتيهما تتطلبان جهداً وتفكيراً وبعضاً من الملل الذى يصاحبه تجنب ممارستها مرة جديدة، ورغم ذلك أول ما يبحث عنه هؤلاء فى الجريدة بعد مطالعة تصريحات الجماعة الإخوانية هو لعبة السودوكو.
ولكن أعضاء اللجنة ذاتها يذكروننى بشىء آخر لا علاقة لها باللعبة المكرورة المملة، ألا وهى حيلة المرأة المستدامة حينما تطلب الطلاق من زوجها ليل نهار وهى فى الأصل تريده وتحبه بل وتتمرمغ فى ثرى قدميه، وما هذه الحيلة سوى إضافة نوع من التوابل الحارقة الحارة على حياتها الزوجية.
هكذا يقوم أعضاء اللجنة التأسيسية لصناعة الدستور وليس تأسيسه، لأنهم بالفعل يصنع دستوراً دونما اللجوء إلى الأعراف الدستورية والدساتير المصرية الضاربة فى القدم، فتجد أحد هؤلاء الأعضاء عقب خروجه من اجتماعات اللجنة التى باتت غير ساخنة أو جديدة يهرع إلى محررى الصحف الصفراء والخضراء والحمراء والسوداء أيضاً ويقف بالساعات أمام عدسات القنوات الفضائية، ليعرب عن قلقه بشأن مواد الدستور، وتخوفه الشديد من هيمنة التيارات الدينية على صياغة مواده.
ليس هذا فحسب بل يعلن رفضه لكل مشاريع المواد الدستورية التى تمت مناقشتها منذ قليل داخل اللجنة، وبالرغم من ذلك الرفض والشجب يأبى أن يتنحى عن عضوية اللجنة بل تراه أول المسرعين ذهاباً فى اليوم التالى لمتابعة ومناقشة المواد الجديدة، وكم هو مضحك أنه بمجرد انتهاء مسودة الدستور وانتهاء القراءة الأولية لمواده أن نجد نسبة غير قليلة من السادة الأماجد أعضاء اللجنة التأسيسية يقيمون حفلات تأبين لما قاموا بالمشاركة فيه يندبون ويبكون على ضياع الشرعية، ويتباكون على ضياع وتقويض مدنية مصر وانهيار قيم الدولة المدنية رغم أنهم مشاركون أساسيون فى صنع هذا الانهيار، وهذا يضعنا فى مأزق معالجة هؤلاء نفسياً واجتماعياً من الوجهة السيكولوجية البحتة.
فإما هؤلاء يعانون فصاماً ذهانياً معضلاً ولا يدركون وجودهم فى أثناء مناقشات أعمال اللجنة التأسيسية، أم أنهم يهابون التيارات المهيمنة على أعمال اللجنة من أصحاب اللحى والتوجهات الدينية الأصولية والوصولية أيضاً، فيكتفون بالصمت والابتسامة داخل اللجنة ثم يعبرون عن كبتهم وامتعاضهم فور خروجهم من قاعة المناقشات.
إن مجرد فكرة صياغة دستور جديد لمصر فى هذا التوقيت أمر بالغ الحساسية السياسية أشبه بالمثل الألمانى الذى يقول: نقيم التماثيل من الثلج ثم نشكو من أنها تذوب. فالشعب الذى رفض الآن هيمنة تيارين سياسيين وانفرادهما بوضع دستور ذى صبغة دينية لدولة مدنية هو نفسه الذى هرول منذ شهور ليست بالبعيدة نحو المشاركة فى غزوة الصناديق لتصعيدهما نحو سدة السلطة التشريعية والرقابية فى مصر .
ولولا أن التيارين لم يقدما أدنى أداء برلمانى وتشريعى لما ارتفعت الأصوات بعدم عدالة ودستورية هذه اللجنة التى تعد دستور مصر للمستقبل. وورقة التوت التى سقطت عن التيارات الدينية التى استهوتها لعبة السياسة فى ظل فوضى ممنهجة تعيشها مصر هى التى كشفت استخدام الأحزاب السياسية الدعوة الدينية كوسيلة استقواء، وهى التى دحضت مزاعم إصابة الشعب المصرى بفقدان الذاكرة التدريجى، بل إن الأداء التشريعى والرقابى المتردى، وتصاعد حدة الرفض الشعبى للتيارات السياسية ذات الهوية الدينية هو الذى أعاد من جديد ظهور شعارات مصر للمصريين والمواطنة والمشاركة لا المغالبة، وهى التى أوضحت الهوة السحيقة بين البرلمان والرأى العام.
والذين فروا من لجنة تأسيس الدستور سابقاً يكونون قد أجرموا فى حق مصر من زاويتين رئيسيتين؛ الأولى أنهم تخلوا عن البلاد فى مهمة قومية تعادل الجهاد، ذلك المصطلح السحرى الذى طالما استخدمته التيارات الدينية وهى تتصارع من أجل الصعود السياسى لها، والزاوية الأخرى أنهم تركوا الساحة خالية لتيارين لا يزالا جالسين بمقاعدهما فى اللجنة، وكان عليهم الاقتداء بمقولة مالكوم إكس المناضل والسياسى الأمريكى حينما قال: "يجب أن تثير ضجة لتحصل على ما تريد".
فالناجون أو الفارون من اللجنة افترضوا مسبقاً تحويل دستور مصر المدنية إلى وثيقة دينية سلفية قد تقمع الآخر وتستبعده اجتماعياً، وربما وجودهم قد يغير من الأمر شيئاً، اللهم لو سار التصويت على مواد وبنود الدستور بنفس الطريقة التى يجرى التصويت عليها فى مشروعات وقرارات برلمان المرجعية الدينية المنحل، لكن الأمر هنا قد يختلف كثيراً، فقرارات المجلس الموقر المنحل حول البنزين والانفلات الأمنى ومشكلة ترعة المحمودية والحمى القلاعية سات 2، تمر بصورة روتينية، لأن أغلب النواب المنحلين قد لا يكونون من المتخصصين فى مجالات يناقشها المجلس، أما الجمعية التأسيسية للدستور فهى الاختبار الأخير لتيارات بعينها للكشف عن مدى صلاحيتها لبناء وتشييد مصر.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة