دخل المثقفون العرب الحقيقيون فى هذه الأوقات غرفة العناية غير المركزة، وأصيب المثقف بغير قليل من الإحباط الذى نجم عنه صمت كبير غير محمود ولا يعود عليه وعلى مجتمعه-الذى يجب أن يسهم بفكره النقى والمخلص فى تسيير عجلة الحياة وإدارتها- بخير.
وتصدر المشهد الثقافى فئة من أنصاف المثقفين أو مدعى الثقافة فى ظل خواء ثقافى ومعرفى أو على الأقل فراغ أحدثه تقوقع المثقف الحقيقى وانكفائه على ذاته، وابتعاده عن المشهد الثقافى الحالى الذى تطاولت فيه أعناق ورسمت بطولات ثقافية على الورق، ناهيك عن تأطير المثقف بوجهة نظر أحادية نتيجة انتماءاته الأيدولوجية والفكرية، حتى بات المثقفون المنتمون لأيدولوجيات بعينها نسخًا ممسوخة وممسوحة فكريًا تدين بالولاء على طول الخط لانتماءاتها الأيدولوجية دون أن تجرؤ على إدانة أدنى تصرف أو نقد لفكرة أو رأى جاء به حزب سياسى أو مؤسسة فكرية تنتمى إلى انتمائه الأيدولوجى، حتى ولو كان هذا النقد فى إصلاح لدورها فى المجتمع.
إنها مشكلة تعيشها الثقافة فى عالمنا العربى منذ عهد بعيد، فولاء المثقف -الأبدى والذى دونه قطع الرقاب- إلى ذى سلطان يعينه بسقوطه عنه وأن كان فاسدًا، أو اتجاه فكرى لا يجرؤ أن يقدم لأهله نصيحة تصلحه وتوجه أفراده، وأن فعل فهو إما رجل متمرد أو لو أحسنوا الظن به فهو مثالى فى عالم غير مثالى وإن نادى أهل توجهه وانتمائه بالمثالية فى المحافل والمؤتمرات.
غيبوبة المثقف العربى القديم والحديث قد تقع تحت ظلال من رماح العجب بالذات وغياب فكرة تلاقح العقول وتوارد الخواطر، وتأكيد فكرة أن العلم رحم بين أهله، فرماح العجب تعصف بكثير من المشاريع الثقافية والعلمية التى تقوم على فكرة فريق العمل الجماعى، الذى حثَّ عليه ديننا الحنيف وحبذه (يد الله مع الجماعة)، و(الله مع الشريكين ما لم يختلفا أو يخون أحدهما الآخر)، فكرة العمل الجماعى فى فكرة منجزة وموجزة ومعجزة؛ فهى تأتى بكل جديد وتوفر كثيرًا من الجهود، وتصنع ما يعجز عنه الفرد وينوء بقوته.
هذا إضافة إلى تشاغل المثقف العربى بقضايا الصراع مع الآخر بدلاً عن التعاون معه والاهتداء بفكره ورأيه، ناهيك عن تسفيهه ونقضه، مستهجنًا لرأى ينقده به ويوجهه، ومستخفًا بفكرة أو طرح يطرحه قد يعود على المجتمع بكل الخير.
إن انشغال المثقف العربى الحقيقى بقضايا فرعية تخص ذاته أو علاقته بالآخر كان له انعكاسات خطيرة عليه وعلى مستقبل الثقافة فى عالمنا؛ فقد أدى هذا إلى كثير من التشرذم والتفرق والتباغض والتدابر والتنافر، فبات المثقف أسير غرفة مكتبته-إن بقى بالفعل أسيرها- يضع جناحيه على أوراق بحوثه فرحًا بما يصنع، وتخلى تمامًا عن دوره فى قيادة وطنه وأمته بفكره الصحيح والمقوم لكل فكر أعوج قد يجر المجتمع إلى دمار وخراب وبلاء ووباء لا نستطيع أن نجد له دواءً حين يتسع الخرق على الراقع، ولات حين مناص.
بل أن اختباء المثقف الحقيقى وتراجع دوره ودخوله فى غرفة عناية غير مركزة أدى إلى أن يتصدر المشهد الثقافى والفكرى أنصاف المثقفين، أو أصحاب الفكر المريض الذى يتربص بالمجتمع الدوائر، أو أولئك ممن يدعون الثقافة ولا يملكون إلا علو الصوت وكيل النقد والانتقاد-غير المنتج- لكل طرف يحاول أن يسهم فى بناء المجتمع، ومن المؤسف أن الإعلام قد أقصى المثقف الحقيقى القارئ بكل ما تحمله لفظة (القارئ) من دلالات، فضلاً عن إقصائه لنفسه عن قضايا مجتمعه بسبب وبدون سبب، وأوسعت وسائل الإعلام المجال لأصحاب الحناجر العظيمة والعقول الصغيرة، التى تزيد وزنًا عما بها من فكر وعلم وثقافة.
ولعلنى أضرب لكم مثالاً واحدًا فى هذا السياق الذى ينذر بخطر كبير على المجتمع تصنعه عقول صغيرة لم تنل حظًّا من القراءة والفهم لما تقرأ بقدر ما أوتيت جرأة على كل صاحب عقل مفكر وثقافة حقيقية؛ فنرى سبابًا وتهجمًا باليد وغيرها، ونضحك من كل مشهد ثقافى يتحول على شاشات القنوات التلفزيونية إلى تشابك باللسان واليد، مما ينال من مشاعرنا ومشاعر أولادنا حين نسعى جاهدين لمتابعة قضايا الوطن، وبقيت تلك المشاهد السبابية التى تعكس عجزا ثقافيا وغيابا أخلاقيا كبيرين مسجلة على مواقع التواصل الاجتماعى وغيرها من المواقع مسجلة بالصوت والصورة لتعكس مرحلة تاريخية سوداء بغيضة فى حياتنا الثقافية لن يمحوها إلا العودة إلى الخلق الكريم والثقافة الجادة الحقيقية التى تبعد عما نراه هذه الأيام من قراءات سريعة بل متسرعة فى محاولة لصناعة أبطال من غير ورق على الساحة الثقافية والإعلامية فى عالمنا العربى، الذى كانت أول كلمة فى كتابه وعقيدته هى (اقرأ).
على سبيل المثال تمَّ إعداد نسخة مسودة للدستور المصرى، وقام بالدور فئة الشعب حملوا أمانة الكلمة، التى عرضت على بعضهم فنأوا وأعرضوا بجانبهم، وتم طرحها للمناقشة والحوار وإبداء الرأى، وهاجت الدنيا وماجت، وعلى الضجيج والعجيج على شاشات القنوات، حتى قد أكلم أنفسى وأقول: (دستور يا إخواننا)، ودارت مجادلات لبعض من قرأ المسودة ولكثير ممن لم يقرأها ولم يكلف نفسه عناء النظر فيها، وكيف يكلف نفسه عناء القراءة وهو يملك صوتًا عاليًا تسانده حنجرة قوية لا تعرف إلا اللاءات فقط، ليصنع لنفسه بطولة غير ورقية (خالف تعرف)، والذى يثبت هذه الفاجعة إحصاء تجريه جريدة الأهرام على موقعها على الإنترنت خاص بمن قرأ مسودة الدستور ومن لم يقرأه، والنتيجة مؤسفة بالفعل، حيث أكد 72% من العينة أنهم لم يقرأوا المسودة، أليست هذه نتيجة مؤسفة حقًّا فى ظل حوارات ومناورات ومداخلات عجت بها الصحافة ووسائل الإعلام؟!!، أليست مؤسفة حقًّا فى ظل بلد يبنى مستقبله، ويحتاج إلى كل جهد وإن قل، ومشاركة كل صاحب رأى لا يضن؟!!
عفوًا أيها القارئ فإن المثقف العربى صار فى غرفة العناية المركزة بحاجة إلى إنعاش وانتعاش إن بقى أو عاش!!!ودمتم بكل خير.
د. رمضان عامر يكتب: المثقفون العرب فى غيبوبة
الأربعاء، 07 نوفمبر 2012 01:56 م
صورة أرشيفية
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
د. عادل هلال مدرس بآداب دمنهور
نعم إنهم فعلا فى غيبوبة