تعنى هيبة الدولة ببساطة القيمة المعنوية لمكوناتها "إقليم وشعب وسلطة حاكمة" بشكل إجمالى، وضمان حماية هذه القيمة من أى تهديد خارجى أو داخلى، وفى إطار هذه الحماية تتداخل عناصر الأمن الداخلى والخارجى، وإن كان الأمن بالمفهوم الضيق، ليس هو العامل الوحيد، فهناك عوامل أخرى سياسية واقتصادية وثقافية، تسهم بدور لا يستهان به فى تلك القيمة المعنوية.
وقد حدثت بعد ثورة 25 يناير كثير من الأمور غير الصحيحة، فى إدارة شئون البلد، ترتب عليها الوصول الآن إلى مرحلة غاية فى السوء، حيث صدرت العديد من القرارات العشوائية، ثم تم التراجع عنها، وحدثت مظاهرات واضرابات عطلت سير العمل فى كثير من المصالح، والهيئات دون اتخاذ إجراء حازم، تحدث كل من هب ودب فى شئون البلد، وكأنها بلد ليس لها صاحب، افتقدنا لغة الحوار الراقى بين كافة فصائل المجتمع.
وتستمد هيبة الدولة من هيبة القانون واحترامه، ففى كافة الدول الديمقراطية لا تنصاع الحكومات، لإرادة أقلية معارضة، إنما تعمل ما يفيد مصلحة الشعب ككل، ومن البديهى عندما تصدر أى قرار، أو قانون أن يكون له معارضون، وهؤلاء يعبرون عن رفضهم تلميحا أو تصريحا، أو تظاهرا بهدف الضغط على الدولة للتراجع، وإن كانوا يمارسون بذلك ابتزازا سياسيا، للحفاظ على مصالحهم غير معنيين بالمصلحة العامة، ومصالح أكثرية الشعب، إلا أن الحكومات لا تتراجع عن قراراتها، ولا تعطل القوانين لخدمة الأهداف فئة على حساب بقية فئات المجتمع الأخرى .
وحرى بالذكر أن من أكثر الأمور خطورة على أى دولة، خضوعها للترهيب الذى تمارسه أقلية متضررة من القوانين والقرارات، لأنها فى ذلك تكون قد تخلت عن دورها، وسلمت زمام أمرها لتلك الأقلية، فهل يكون مسلك الدولة صحيحا، حين تنصاع لخارج على القانون أم أنها بذلك تكون قد تخلت عن هيبتها؟
هناك خيطاً رفيعاً ما بين بعض الممارسات الشعبية وبين تهديد هيبة الدولة، فعندما يقوم المتظاهرون باستخدام القوة فى مواجهة قوات الأمن، أو يمتنعون عن تنفيذ تعليمات تتعلق بالنظام العام والآداب والصحة العامة، فإن كل ذلك يعد انتقاصاً من هيبة الدولة، إذا لم تتخذ الإجراءات القانونية ضد هؤلاء، للسيطرة على هذا الوضع والحيلولة دون تفاقمه.
وقد يذهب البعض، إلى أن شعور فئة فى المجتمع بأن بعض حقوقها مهدرة، وأن النظام القانونى لا يوفر لها حماية كافية لهذه الحقوق، وبالتالى فإن ذلك يمنحها الحق فى الخروج عن النظام، ولو بالمخالفة للقانون، إلا أن أصحاب هذا الرأى يغفلون أن خروج فئة ضد هذا النظام القانونى، يعنى اهتزاز هيبة الدولة نفسها، وهو ما يعنى اعتداء أوسع على مكونات الدولة الأخرى "باقى فئات الشعب، والإقليم"، بما يؤثر سلباً على سيادة الدولة، بحيث تصبح عرضه للاختراق الخارجى والداخلى.
فى الدول الديمقراطية نرى كيف يتظاهر المعارضون احتجاجا على بعض القوانين والقرارات، ونرى فى المقابل كيف أن الدولة تبقى على موقفها ولا تخضع، وهذا ما حدث فى الولايات المتحدة الأمريكية، حين تظاهر عشرات الآلاف ممن أطلقوا على أنفسهم حركة "احتلوا وول ستريت" تنديدا بهيمنة النخبة المالية، ومطالبة بتوفير فرص العمل، وتعزيز العدالة الاجتماعية، كما أن قطاعات واسعة من المجتمع الأمريكى وقفت بشدة فى مناسبة أخرى ضد قانون الرعاية الصحية، وغيره من القوانين، إلا أن الحكومة لم تتراجع، ولم تقف قوى الأمن متفرجة على المتظاهرين الرافضين، بل إنها قمعت التظاهرات حين عرقلت الحياة العامة فى المدن، والأمر نفسه حدث فى اليونان وأسبانيا حين أقرت حكومتا البلدين قوانين التقشف، ورسمتا سياسات اقتصادية جديدة، لإنقاذ الدولتين من الانحدار إلى هاوية الإفلاس، ولم تتراجعا عن قراراتهما.
نستنتج من ذلك أن وجود مطالب لفئة معينة من الشعب لا يخول لها تهديد هيبة الدولة، كما أن واجب السلطة التنفيذية يقتضى التعامل بالحزم اللازم فى هذه الحالة، وواجب السلطة التشريعية، أن تنهض بمهامها فى التشريع، لضمان الحقوق القانونية لتلك الفئة، وقيام السلطة القضائية برقابة تصرفات السلطة التنفيذية وسلوكها لحماية هيبة الدولة.
ختاماً، يجب أن يلاحظ كل من يعنيه الأمر أنه ليس فى مصلحة أى فئة فى المجتمع ضياع هيبة الدولة، لأن ذلك قد يؤدى إلى حالة من الفوضى التى يخسر فيها الجميع.
ومن ناحية أخرى، فإن السلطة التنفيذية يجب فى ممارستها لاختصاصاتها، أن تحترم الدستور والقانون، وعليها مراجعة ودراسة قراراتها جيداً قبل إصدارها، حتى لا تصدر قرارات، وتتراجع عنها لكونها قرارات خاطئة، أو تتراجع عنها تحت الضغوط على نحو قد يفقد الدولة هيبتها.
لا نريد دولة رخوة يتحكم فيها فئات معينة خارجة عن القانون، ويجب على الدولة ألا تنصاع لخارج على القانون، فإذا فعلت تخلت عن هيبتها، وسلمت زمامها للفوضويين.
الدولة القوية تفرض هيبتها بالقانون، وليس بالصفقات والتسويات والمهادنات، وإلا تحولت إلى دويلات لكل جماعة منطقة تسيطر عليها.
واجب على الدولة فرض هيبتها، وحفظ أمن شعبها ومصارحة الناس بكافة الحقائق المتعلقة بهذا البلد، وأن تحافظ على كرامة الوطن والمواطن، والتساؤل الآن هل سيكون نظامنا وحكومتنا بمستوى آمال الأكثرية الساحقة، أم أنهما سيرخيان قبضتهما عن الدولة بقرارات مرتعشة، وبالخضوع لقلة غوغائية؟
ما يحتاجه الشعب اليوم تأكيدات على أعلى المستويات بأن القانون سيطبق على الجميع دون استثناء، وأن يشاهد الشعب ذلك فعليا، كما أن الحكومة مطالبة بالتحدث صراحة مع الناس، وطمأنتهم بأن ما يتخذ من قرارات سيوضع موضع التنفيذ، ولا تراجع عنه تحت أى ظرف حتى لا تسقط هيبة الدولة.
يجب أن يتحدث باسم الدولة المسئولون الذين تولوا إدارة شئون البلاد، ولا يحق لأى شخص كائن من كان أن يتحدث باسم الدولة أو باسم الشعب.
يجب أن تختلف لغة الحوار، وأن يحترم كلا منا الأخر أيا كان توجهه، وأن نضع مصلحة مصر نصب أعيينا فهى الباقية وكلنا زائلون.
لقد قامت الثورة المصرية من أجل الحق والعدل، من أجل رفعة هذا الوطن، من أجل جعل هذا الوطن فى مصاف الدول المتقدمة، ولن نسمح بأى حال أن نهدم هذه الأهداف والغايات، سواء بأخطاء من القائمين على إدارة شئون البلاد أم من أقلية لا تهدف سوى مصلحتها الخاصة.
* الخبير فى مجال القانون الجنائى الدولى
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
السعيد
ممتاااز