إن عملية البحث عن القوة ذات التأثير الأكثر فاعلية فى عملية التحول الديمقراطى فى مصر الآن، تبدو عملية شائكة، نظراً لعدم وضوح الرؤية، فقد استيقظ المصريون يوم الثامن عشر من فبراير ليجدوا أنفسهم فى فراغ سياسى، فالثورة التى أطاحت بالنظام السابق كانت بلا رأس، ولا خطة، ولا كوادر مؤهلة لملء الفراغ، الناتج عن تبخر الحزب الوطنى وحكومته فى غمضة عين، وفى مناطق الضباب يُطلب أمهر الربان، ولا مجال فى قيادة الأمم لمحاولات الهواة.
ولسنا هنا بالباحثين عن القائد المحنك أو الزعيم المُلهم، ولكننا نبحث عن الكتلة المُحوِلة التى تقود عملية التحول، فقد انتهى عصر الشخص الزعيم، وبات جلياً أن الكرة فى ملعب المؤسسات وجماعات المصالح، ولنتفق من البداية على أن جمع الناس وتوجيههم بدافع أيديولجى أو عقائدى بحت هو ضرب من الوهم، أو هو أفلاطونية حالمة ليس لها مكان فى الواقع إلا فى رءوس الذين يعيشون زمن الأساطير، هى- إذن- مصالح أشخاص، إن تجمعت فى اتجاه واحد شكلت مصالح مجموع، والعيش خارج أرض الواقع لن يكون له نتيجة غير تأخير التحول والاستقرار.
إذن ما هى الكتلة المصرية القادرة على إدارة مرحلة التحول؟
ربما يقودنا رصد الواقع إلى حصر اختياراتنا بين خمسة كتل هى:
1 – الأحزاب السياسية.
2 – النخبة المثقفة.
3 – الفلول، أو ما يعرف بـ"الدولة العميقة".
4 – شباب الثورة.
5 – الأغلبية الصامتة.
ولنقف بالرصد والتحليل لكل من هذه العناصر لنقف على أيها له الكلمة فى توجيه الدفة.
أولاً: الأحزاب السياسية:
فى السجلات الرسمية للدولة هناك 46 حزباً سياسياً، عبارة عن: 24 حزبا موجودا من قبل ثورة 25 يناير، منها 4 أحزاب مجمد نشاطها بسبب التنازع على رئاستها هى: حزب العمل المصرى، حزب مصر الفتاة، حزب العدالة الاجتماعية، حزب الشعب الديمقراطى.
22 حزبا ولدوا فى أعقاب الثورة، منهم 21 حزبا فى 2011، وحزب فى 2012 هو حزب الدستور.
بالإضافة إلى العديد من الحركات والمنظمات والجماعات غير المعترف بها قانوناً.
أما على أرض الواقع، وبمفهوم الأداء الحزبى المتعارف عليه عالمياً، فليس هناك أحزاب سياسية فى مصر وأغلب الأحزاب لا يزيد وجودها عن مقر مجهول وجريدة غير مقروءة، وحتى ما يتوهم البعض أنها أحزاب سياسية لها جمهور كحزبى الحرية والعدالة، والنور مثلاً فإنها، وبالرغم من إشهارها قانوناً كأحزاب، إلا أن أداءها وممارساتها السياسية أقرب للجماعات منها للأحزاب، وربما يكون مرجع ذلك أنها فى الأصل جماعات لبست الثوب الحزبى لتنال الحق القانونى فى التمثيل الشعبى، دون أن تخلع ثوب الجماعة المتأصل فيها منذ نشأتها، وربما لحداثة عهدها بالعمل السياسى، فحزب النور الذى يعيش سنة أولى سياسة، يعقد لرجاله دورات للتدريب على العمل الحزبى، والتدريب ليس عيباً ولكن التدريب يعقده القادة المخضرمون للمنتسبين الجدد، ولا يجدى التدريب النظرى القصير إذا قدمه هواة للمرشحين قادة!!!، وحزب الحرية والعدالة على مدى تاريخ جماعة الإخوان المسلمين الطويل لم يجد غير لعبة الانتخابات، ولا يوجد مهارة واحدة أجادها الحزب لممارسات ما بعد الفوز فى الانتخابات.
نحن إذن أمام فراغ سياسى حزبى فالأحزاب السياسة القائمة بالفعل، معظمها يستوى وجوده والعدم، والباقى غير مؤهل، فى الوقت الحالى على الأقل، لقيادة الشعب فى مرحلة التحول الديمقراطى.
ثانياً: النخبة المثقفة:
عبر تاريخنا القريب، منذ رفاعة الطهطاوى وحتى ثورة يوليو 52، كان من الممكن لمقال صحفى أن يعزل وزيراً أو يربك حسابات حكومة، وكان مفكرونا الثقات لهم من التأثير ما يجعل كلمة أحدهم موضوعاً على المقاهى، ومادة نقاش وتحليل فى كبرى الدور فى كافة ربوع مصر، وقد فطنت ثورة يوليو لثقل هؤلاء فعملت على إضعاف تأثير الكتاب والمفكرين لتكون الكلمة العليا لقادتها دون غيرهم، فاستأنست واستقطبت الكثيرين منهم ليكونوا لها أبواقاً، وأقصت من استعصى استئناسه، ولأن كل الحكومات بعد ذلك سارت على طريق ثوار يوليو، وبتقدم الزمن وترسيخ الولاء للحكام، أصبح الولاء للحكام شرط وصول صوت الكاتب أو المفكر للجمهور، وكانت النتيجة الطبيعية لهذا الاستقطاب أن فقد معظم الكتّاب ثقة الجمهور، وأوشك المفكرون على الانقراض، وليتنى أكون مخطئاً إذا قلت إن حوارات ومقالات الكتّاب فى الوقت الحالى وإن عُدّوا كباراً ليس لها أدنى صدى لدى الجمهور، وهل لمن عاش سنوات طوال يُفرض عليه إبراهيم نافع وسمير رجب وأشباههم على أنهم كبار الكتاب أن يرى فى متصدرى المشهد الثقافى اليوم كتاباً أو مثقفين!!!، لقد كفر رجل الشارع بالمثقفين، وآمن بأنهم أبواق للسلطة التى قهرته، ولم يجد منهم أحداً كاشفا للظلم ولا مدافعا عن القيم، ويحتاج الناس لزمن طويل وممارسات إيجابية جادة من جانب المثقفين حتى يستعيد الشعب ثقته فى المفكرين والمثقفين ويؤمن بدورهم كمشاعل على طريق النهضة.
ثالثاً: الدولة العميقة:
منذ ثورة 25 يناير وحتى الآن، يمكن الجزم بأن فلول النظام السابق يقودون البلاد من خلف الستار، ويحركون الأحداث كمخرج ماهر بمسرح العرائس (الماريونت)، بدليل أنه ليس هناك متغير واحد حقيقى إيجابى فى اتجاه أهداف الثورة، اللهم إلا القضاء على مشروع التوريث، الذى وإن كان قد انتهى من منصب رئيس الجمهورية، إلا أن توريث المهن أصبح ثقافة مصرية خالصة، فالتوريث ضارب بجذوره فى عمق الثقافة المصرية المعاصرة، ففى مصر وحدها لا يصلح لمنصب وكيل نيابة إلا ابن المستشار، ولا يجرؤ على التقدم لكلية الشرطة إلا أبناء اللواءات، وفى واحدة من الظواهر التى تستعصى على الفهم، نجد أبناء أساتذة الجامعات دون غيرهم هم العناصر المؤهلة للبحث العلمى والمستحقين لوظائف المعيدين بالجامعات، مع أنه فى تاريخنا العربى والتاريخ العالمى لم يرث أحد علم أبيه ولم يحمل أحد لقب عالم ابن عالم، فلا ابن أينشتاين عالم ذرة، ولا والد زويل أستاذ جامعة، وحتى المهن التى تتطلب الموهبة كالتمثيل ولعب الكرة لم تسلم من التوريث، ولم يختلف الأمر بعد الثورة، وإذا كانت الثورة قد قامت أساساً ضد الظلم الاجتماعى، فما زال الظلم قائماً يمد لسانه للثوار وما زال هناك أناس (خاملون) يتقاضون راتباً شهرياً بالملايين وآخرون (كادحون) يتقاضون راتباً شهرياً بالملاليم، ولم تتم زراعة فدان زيادة عن السابق، ولم يتم افتتاح مصنع جديد، وحتى المصانع التى توقفت عن العمل بغرض "التسقيع" تمهيداً للبيع كشركة الحديد والصلب وشركة النصر للسيارات ما تزال خرابات ينعق فيها البوم، والمصانع الحربية فى حلوان تُنتج، وبجودة عالية، بوتاجازات وسخانات وكافة أدوات المطبخ!!.
الفلول- إذن- متوغلون فى مفاصل الدولة، يعيشون فقط فترة سكون وترقب، ينتظرون مرور فترة حماس الثوار وهدوء العاصفة، وهم جاهزون للعودة الناعمة، بالديمقراطية فى ثوب جديد، وأستطيع الجزم بأن انتخابات مجلس الشعب القادم سيكتسحها الفلول أو تلاميذهم النجباء، إن سارت الأمور فى قادم الأيام على نفس منوالها الحالى.
رابعاً: شباب الثورة:
شباب الثورة- أصحاب الثورة الحقيقيون- اختفوا منذ 12 فبراير 2011، قليلون منهم انطلقوا يمارسون السياسة عبر الشاشات وعلى صفحات الجرائد، ومعظمهم انضم إلى الأغلبية الصامتة حيث أتى، ولا وجود فعلى فى الحراك السياسى اليوم للثوار، ومعظم- إن لم يكن كل التجمعات والمليونيات والاحتجاجات والاعتصامات وقطع الطرق و ... إلخ بعد 11 فبراير- هى مطالب فئوية أو راكبو موجة الثورة، أو مقهورون بالظلم من قبل الثورة وبعدها وهؤلاء تم تخديرهم بحفظ شكاواهم بديوان المظالم، أو ثورة مضادة أو أناس خرجوا ليعلنوا عن وجودهم، فقط ليقولوا نحن هنا، أو تافهون رأوا الساحة خالية فظنوا أنهم رجالها.
أما الثوار الحقيقيون، الكامنون خلف الستار، الراصدون بوعى لكل ما يجرى على الساحة فإنهم قابلون للاستقطاب إن فطن كيان سياسى ما لقوة تأثيرهم، ووضع برامج حقيقية وأهداف وإستراتيجية واضحة للتعبير عن أحلامهم وطموحهم، وما يدعوا للفخر بهؤلاء أنهم أنضج من أن تخدعهم الشعارات البراقة الخاوية المضمون، هم قوة إذن، ولكنهم كالسهم فى كنانته.
خامساً: الأغلبية الصامتة
فى مصر تجد فى أحاديث العامة على المقاهى، وفى وسائل المواصلات، وفى مواقع العمل تحليلات ورؤى سياسية أنضج فكراً وأعمق بصيرةً من كثير من حوارات أساتذة العلوم السياسية عبر الشاشات، وقد تعجب، كيف لهذا الشعب، الذى يتمتع بهذا القدر من الوعى أن يستسلم للظلم كل هذه السنوات الطوال ويزول العجب إذا علمت أنه ليس استسلاماً للظلم، ولكنه شعب لديه قدرة عالية على الصبر، صبر على المكاره يفوق التصور، دون تراجع عن الهدف، فإذا انطلقت حمم غضبه فلا خط بارليف يصده، ولا زبانية حبيب العادلى تسكته.
لقد ثارت الكتلة الصامتة فى 25 يناير، فأزالت النظام السابق، ووضعت المسئولين الحاليين على بداية طريق الإصلاح، ثم عادت إلى "أكل عيشها"، ترقب ماذا هم فاعلون؟، توارت الكتلة الصامتة عن المشهد باختيارها مانحةً الفرصة للمسئولين الجدد، واحتفظت لنفسها بمكسب واحد من الثورة لن تتنازل عنه وهو "نزاهة الانتخابات"، فبقرار صارم من الشعب الصامت لن تزور انتخابات فى مصر بعد 25 يناير، وهذا قمة الوعى، فليعربد هذا وينبح ذاك، ويأخذ "س" فرصته، ويرينا "ص" مهارته، وليلبس لاعقو أحذية أسيادهم فى السابق ثياب الوطنية المزيفة، وليفرح الآكلون على كل الموائد، وليتوهم المرجفون فى المدينة أنهم خارج دائرة الرصد، و.. وتبقى الدفة فى يد الشعب يحولها ببصيرته كيف شاء وقتما يشاء، والقائد الفائز فى المرحلة المقبلة بثقة الشعب هو من يعى أن الشعب الذى حطم الصنم الأكبر لن يسجد لصغار الأصنام، وأن القرارات الصائبة، الجريئة، الحازمة، الناجعة، العادلة هى الطريق إلى قلب هذا الشعب وعقله.
إبراهيم أبو زهرة يكتب: من يقود عملية التحول الديمقراطى فى مصر؟
الإثنين، 26 نوفمبر 2012 07:21 ص
محمد مرسى
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
سليمان صلاح
بمراعاة أننا أقدم ديمقراطيـــــ***ــــــــة فى الشرق الأوسط !!
عدد الردود 0
بواسطة:
مواطن
سؤال نفسي اعرف جوابه