الإنسان لا يملك قدره، وقدرى أننى من جيل عبد الناصر مهما كانت حسناته أو سيئاته، ولكن وعيى ووجدانى تشكلا فى هذه الفترة، وإن كان عبد الناصر قبل 67 غيره بعد 1967، لا أبرئه من الهزيمة الشنعاء، حيث إن نتائجها أسوأ من فساد نظام مبارك على مدار ثلاثين عاماً، أُحتلت أرض مصر وضحينا بالغالى والنفيس من المال والأرواح.
كان عبد الناصر زعيماً ورئيساً ملء السمع والبصر حتى عام 1967م، وكنت أنا طالباً فى أوائل الستينيات بكلية التجارة جامعة عين شمس ومقرها شارع القصر العينى بحى المنيرة، وفى أحد الأيام بُلِغنا بأن الرئيس سوف يمر بشارع القصر العينى، خرجت الكلية عن بكرة أبيها سواء برغبة الطلاب أو بتوجيهات، الله أعلم.
ولا أنس هذا اليوم حيث كنت أحد المصطفين على جانبى الطريق، رأيته فى سيارة مكشوفة، المسافه بينى وبينه تسمح بأن أراه جيداً، التقت عينى بعينيه، أقشعر بدنى ووقف شعر رأسى هيبة لهذه الكاريزما التى لم تتكرر.
الرئيس خلال فترة رئاسته له مواعيد ثابته لإلقاء خطبة متعلقة بمناسبات قومية أو اجتماعية محددة التواريخ، وإذا أعلن أن رئيس الدولة سوف يلقى بياناً على الشعب فى غير هذه المواقيت توقع الشعب أن هناك أمراً جللا حدث أو سوف يحدث، وسوف أسوق مثلاً واحداً يسجله التاريخ فى شهر سبتمبر 1961، وكنا فى ذاك الوقت "الجمهورية العربية المتحدة" بإقليميها الجنوبى والشمالى"، وإذا بأجهزة الإعلام تعلن عن إلقاء بيان هام للسيد رئيس الجمهورية، فى هذه اللحظة صمت الشعب كله وكأن على رءوسهم الطير يترقبون بيان رئيسهم، فإذا به يظهر ليعلن انفصال سوريا.
الأمثلة كثيرة بالمواضيع التى يظهر فيها الرئيس للشعب وليست كل المواضيع تستوجب ظهوره.
ثم جاء بعده كل من الرئيس السادات والرئيس المخلوع حسنى مبارك وكلاهما سار على نفس المنهاج فى إلقاء الخطب والبيانات، لأن كلام رئيس الدولة ولقاءاته محسوبة عليه حتى لو كان الكلام على سبيل المزاح أو اللقاء لقاء محبة وود، حفاظاً على هيبته وسط شعبه وأمام العالم، وليعرف كل رئيس أن كلماته بل حروفه وأنفاسه تحللها أجهزة محلية ودولية تستنبط من خلالها نواياه واتجاهاته، كما أن بها تحُلل شخصيته، لذا أرى أن قلة الخطب دليل على حصافة الرئيس، ويقول حكيم "تكلم مرة واحدة لأعرفك".
والسؤال الآن لماذا هذا السرد وفى هذه الفترة بالذات؟ والإجابة لأننى أرى فى السيد الرئيس الحالى عكس ذلك فأهم ما يميزه الإسهاب فى الخطب وفى الأحاديث غير الرسمية بعد الصلاة (ليس كل صلاة بالطبع)، ففى رأيى أن هذا يفقدنا التشوق إليه، وإذا فقدنا الشوق ضاعت الهيبة والكاريزما وإذا كان فى أمكانى أن ألتقى برئيس الجمهورية بعد الصلاة فى أى مسجد لقاء كل من هدب ودب، ربما هذا شىء محمود ومستحب فى عصر عمر بن الخطاب، أما فى عصرنا الحالى ومع من لا يقدرون ويخلطون الأمور وهم كثيرون، فيجب أن يكون ذلك فى حدود حتى لا تفقد هيبة الرئيس.
قد يعارضنى البعض لكن هذا رأيى، أقول للسيد الرئيس: "إن كثرة الكلام ينسى بعضه بعضا"، كما أنه ليس من العيب أن يقوم خبراء المراسم والبروتوكولات بتعريف ما يقتضى عمله من سلوكيات لكل مستجد على الساحة السياسية.
وأستودعكم الله الذى لا تضيع ودائعه".