لقد سطرت الهجرة النبوية الشريفة أروع الأمثلة فى التضحيات والجود بالنفس، فالكل قد هاجر إلى مستقبل مبهم تحدد معالمه الثقة بالله، من أجل إعلاء دينه عز وجل.
فها هو الصديق رضوان الله عليه أول من أسلم من الرجال، لم يتردد لحظة حين عرض عليه النبى - صلى الله عليه وسلم - الإسلام، وشهد له الرسول بذلك فقال: "ما دعوت أحدًا إلى الإسلام إلا كانت فيه عنده كبوة ونظر وتردد، إلا ما كان من أبى بكر بن أبى قحافة، ما عتم عنه حين ذكرته له، وما تردد فيه".
وكان الدور الأروع حينما هاجر رضى الله عنه مع النبى، فقد ترك أهله وماله ولم يبق معه شيئا، ولا يعلم إن كان سينجو فى رحلته هذه أم لا، وهل سيجمع الله بينه وبين عشيرته مرة أخرى أم سيفرق بينهما الموت.
ومشهد آخر للصديق وهو مع الرسول صلى الله عليه وسلم، فى طريقهما إلى غار "ثور"، حيث جعل يمشى ساعة بين يدى الرسول صلى الله عليه وسلم وساعة خلفه، حتى فطن النبى، لذلك فقال: "يا أبا بكر، ما لك تمشى ساعة خلفى وساعة بين يدى؟" فقال أبوبكر: يا رسول الله، أذكر الطلب فأمشى خلفك، ثم أذكر الرصد "الجواسيس"، فأمشى بين يديك"، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: "يا أبا بكر، لو كان شىء لأحببت أن يكون بك دونى؟"، قال أبوبكر: "نعم، والذى بعثك بالحق".
فأبو بكر رضى الله عنه يبين لنا كيف ندافع عن سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم بأعز ما نملك، فهل حرسناها، وهل كانت أعيينا ساهرة نحميها ليلا ونهارا؟
وها هو رضى الله عنه حين يصل مع رسول الله للغار يقول له: "والله لا تدخله حتى أدخل قبلك فإن كان فيه شىء أصابنى دونك"، هكذا هانت نفسه عليه من أجل حماية رسول الله، فهل صدقنا الله فى أن نضحى من أجل سنة الحبيب.
صهيب الرومى يضرب لنا مثالا آخر فى التضحية، فعن أبى عثمان النهدى رحمه الله قال: "بلغنى أن صهيباً حين أراد الهجرة إلى المدينة قال له أهل مكة: "أتيتنا ها هنا صعلوكاً حقيراً، فكثر مالك عندنا، وبلغت ما بلغت، ثم تنطلق بنفسك ومالك؟ والله لا يكون ذلك"، فقال: "أرأيتم إن تركت مالى تخلون أنتم سبيلى؟" قالوا له: "نعم"، فجعل لهم ماله أجمع، فبلغ ذلك النبى صلى الله عليه وسلم فقال: "ربح صهيب ربح صهيب"، ونزل قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) البقرة: 207".
وهذا على كرم الله وجهه ينام فى فراش النبى، وهو يعلم أن من يقفون أمام بيت النبى لم يريدوا إلا قتل من نام على هذا الفراش، فوهب نفسه فداء لرسول الله، فإلى من نام عن صلاة الفجر وقيام الليل نام على مضحيا بنفسه فشتان بين نومة ونومة.
أسماء بنت أبى بكر تواجه فرعون هذه الأمة أبو جهل ومعه نفر من قريش، فقالوا لها "أين أبوك"، قالت: "لا أدرى"، فرفع أبو جهل يده فلطم خدها لطمة طرح منها قرطها وتحملت الإيذاء، ليس هذا حسب، بل كانت تحمل الطعام لرسول الله ولأبيها، وتتحمل مشقة صعود غار ثور مع شدة ارتفاعه وهى حامل فى ذلك الحين، هكذا تحملت الإيذاء والمشقة من أجل الحبيب صلى الله عليه وسلم.
ولا ننسى تضحية الأنصار بأموالهم لنصرة إخوانهم من المهاجرين إلى أن وصل الأمر لأن يقول الأنصار للنبى "اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل"، فمتى يضحى المسلمون بأقواتهم وأرزاقهم من أجل إخوانهم، متى يشعرون أننا بالفعل جسد واحد "إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".
هكذا قامت دولة الإسلام وبذلك تنهض، فالإسلام لم ينتشر إلا بسلسلة من التضحيات، فليذد كل منا بنفسه وماله ووقته، وليضح كل واحد منا بشهواته ومطامعه، ليكمل ما بدأه المسلمون الأوائل، ولتكن السنة الهجرية الجديدة عنوانا للتضحية بكل غال ونفيس من أجل قيم ديننا الحنيف.
مها جلال تكتب: الهجرة النبوية الشريفة.. تضحيات بلا حدود
الثلاثاء، 20 نوفمبر 2012 12:04 ص