كثيراً ما أتذكر حواراتى مع أبى رحمه الله فى مشاهد من ذاكرة الطفولة الرائقة، تتجسد بنقاء الصورة "الإتش دى" ثلاثية الأبعاد، وحدَّة ألوان السينما سكوب فى فترة الخمسينيات والستينيات، كألوان فيلم الناصر صلاح الدين.
وغالباً ما تتكامل عناصر الصورة النهائية للذكريات ذات الأثر الغائر فى وعيى، بمعالجة لأصوات المشهد، ما بين إضافة صدىً للصوت فى الجمل المؤثرة، أو أصوات النورس والأمواج إذا كان المشهد خارجيا على الشاطئ، أو صوت بندول ساعة الحائط أثناء فترات الصمت فى المشاهد الداخلية بمنزلنا.
كان أحد أهم تلك المشاهد يوم أن نجوت وأنا فى العاشرة من غرق محقق فى دَوَّامة قريبة من الشاطئ أمام منزلنا الصيفى بالإسكندرية.
يومها اصطحبنى أبى مرة أخرى بعد أن هدأت إلى الشاطئ، ووقف ينظر إلى الأمواج المتلاطمة بتركيز لدقائق طويلة يغلفها الصمت، ثم بادرنى قائلاً دون أن يحول ناظريه عن البحر: "اوصفلى لما وقعت فى الدوامة اتصرفت إزاى".
قلت له بتلقائية الأطفال، وأنا أشتكى له البحر:
حاولت بكل قوتى أن أخرج منها وهى بتسحبنى لتحت، ومن كتر التعب ماعرفتش أنظم نَفَسى، فشرقت من كتر المياه اللى شربتها، وبعدين اتخبطت فى الصخور، ومسكت فيها جامد وأنا باترعش لحد ما التيار غير اتجاهه وربنا ستر.
ابتسم لى قائلاً:
افتكر الكلمتين اللى هاقولهملك..
خصوصاً لو فى المستقبل حصلتلك مشاكل كبيرة وحسيت بسببها إنك فى دوامة..
بتدور فيها.. ومش عارف تخرج..
تقدمنا قليلاً إلى حافة الصخور، حيث داعبت الأمواج أقدامنا، فوضع يده على كتفى قائلاً:
دوامات البحر زى دوامات الحياة بالضبط..
لو وقعت فيها بعد كده.. ما تعافرش..علشان تخرج منها أول ما تقع فى دائرتها السريعة الدوران..
أهم حاجه إنك ماتخفش.. وتنظم نفسك كويس.. وتسيبها تسحبك.. وانت محتفظ بوعيك.. وبتراقب أبعادها..
وبتتنفس بهدوء.. وماتخليهاش تستهلك طاقتك..
الدوامة مهما كانت دايرتها كبيرة وبتدور بسرعة على السطح..
بتضيق تدريجياً وهى بتسحبك لتحت لحد ما تنتهى..
ساعتها تعوم تحت المياه بهدوء بعيد عنها..
لو اتلخبط.. واتلهيت ومانظمتش نَفَسك..
سكت للحظات تلاقت فيها أعيننا، ثم أشاح ببصره إلى الأفق قائلاً من بين أسنانه:
يبقى انت اللى غرَّقت نفسك بسوء تصرفك.. وعدم إدراكك لطبيعة الدوامات..
مش الدوامة اللى غرقتك..
وقد انغمست كثيراً فى دوامات الحياة حينما غابت عنى كلماته التى قالها فى هذا المشهد..
ربما كانت تلك الكلمات هى النصائح المناسبة فى الوقت المناسب، لكنى لم أكن آنذاك صاحب تجارب غرق كثيرة تسمح بإدراك أهميتها.
صورة أرشيفية
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
amira
جميل
بجد كلام جميل جدا ومعبر جدا