أيا ما كانت المواقف السياسية المتعارضة فإن موقف الحكومة المصرية من أحداث غزة يعتبر خطوة فى الاتجاه الصحيح، ليس فقط لسحب السفير المصرى من تل أبيب، وإنما بالتحرك السريع فى مجلس الأمن، وفتح المعبر بشكل استثنائى، وذلك كله يعد تطورا معقولا ومطلوبا على الموقف المصرى التقليدى من غزة.
لكن الخطوات التالية تحتاج إلى المزيد من التدقيق والحذر، فليس من الحصافة أن نستدرج إلى كمين منصوب لتوريطنا، خاصة أن الأوضاع الأمنية فى سيناء غامضة وغير مستقرة، وهناك اتجاهات ترغب فى الدفع بالأحداث إلى اختبار مبكر للنار والبارود، وبعض هذه الاتجاهات ينفذ أجندات خارجية، وبعضها الآخر يندفع بجهل أو بجهالة، مع صمت مريب وغريب يشى بتواطؤ أو على الأقل مباركة ضمنية، ومن ناحية أخرى فإنه يجب التحرك على الصعيد العربى والإفريقى والدولى لحشد الرأى العام كى يدعم الموقف المصرى ويعرى جرائم الحرب التى ترتكبها سلطة الاحتلال الإسرائيلية، وأخص بالذكر الدول العربية التى طالما طالبت بعودة مصر إلى مقعد القيادة، لأن مصر وحدها دون ظهيرها العربى الفعال لن تتمكن من إحكام الحصار على العدوان الإسرائيلى، وليس من الضرورى اتخاذ إجراءات شكلية لعقد قمة للملوك والرؤساء، حيث يمكن لقنوات الاتصال الحديثة أن توفر تبادل المعلومات وتنسيق المواقف، بالشكل الذى يتيح مثلا «قمة افتراضية» على صفحات التواصل الاجتماعى.
ومن متابعة الموقف الإسرائيلى يبدو واضحا أن نتنياهو يسعى لاستخدام غزة كورقة فى المعركة الانتخابية القادمة، ومن سوابقه يمكن أن نستنتج أنه يمكن أن يذهب إلى آخر حدود الجنون والعربدة، ومن ناحية أخرى فإن الوضع فى الإقليم يدفع للتصعيد بشكل عام، فمن مصلحة سوريا ووراءها إيران أن تشتعل نيران غزة كى تخفى مذابح الشام، كما أن لحزب الله مصلحة محققة فى التصعيد كأسلوب يخفف من تفاقم حدة الاستقطاب الداخلى فى لبنان.
الموقف المصرى لا يزال متسقا مع التزامات معاهدة السلام، بل يمكن تطويره دون إخلال بهذه المعاهدة، علما بأن إسرائيل قد انتهكت هذه المعاهدة بالفعل عدة مرات، والانتهاك الأساسى هو إخلالها بالتزامها فى إطار كامب ديفيد بحق الفلسطينيين فى تقرير المصير فى الضفة الغربية وقطاع غزة، ورغم أن الإشارة إلى هذا الإطار قد وردت فى ديباجة المعاهدة، فإن جوهر السلام المصرى / الإسرائيلى الذى هو جوهر وروح المعاهدة نفسها يلزم إسرائيل بالانسحاب من الأراضى العربية التى احتلتها عام 1967 وفقا لقرارات مجلس الأمن أرقام 242، 338، ومن ناحية أخرى فإن استخدام إسرائيل للشريط الحدودى «المنطقة د» فى عمليات عدوانية وبكثافات عددية مع الطيران فوقها يعتبر انتهاكا مستمرا لالتزاماتها وفقا للمعاهدة، وكل ذلك يعطى مصر الحق فى التنصل من التزاماتها وفقا لنفس المعاهدة أو بعضها على الأقل.
ومن المدهش أن إسرائيل لم تفهم الرسالة التى أرسلتها الثورة المصرية بأشكال مختلفة، كما تعاملت باستهانة بالتحذير المصرى بشأن الهجوم الوحشى فى غزة، وربما لا تزال القيادة الإسرائيلية تتشكك فى مدى جدية ثورة الشعب المصرى فيما يتعلق بفلسطين، أو ربما تريد اختبار حكومة الإخوان المسلمين على أساس ما يتردد عن توافقات مع واشنطن للتهدئة، ولكن من الواضح أن إسرائيل تخطئ فى حساباتها وتقدير موقفها.
لا أظن أن لإسرائيل مصلحة فى التصعيد ضد مصر.. ولكن لديها للأسف مساحة واسعة للمناورة غير متاحة لمصر فى الوقت الحالى، ومع ذلك أخشى أن الأوضاع الداخلية لدى الطرفين قد تؤدى إلى تحرك غير محسوب، تتدافع بعده نظرية الدومينو فى توقيت غير مناسب بالتأكيد.. لذا فمن المهم أن تكون لدى صانع القرار رؤية واضحة للحظة التى ينبغى عندها فرملة التصعيد أو تجميده، مع تحمل الثمن الداخلى لهذه الضرورة.. لذلك أرجو ألا تقتصر إدارة الأزمة على خبراء مؤسسة الرئاسة ومستشاريها، ويجب أن يكون لوزارة الخارجية دور ملموس فى إدارة الأزمة الحالية، بالإضافة إلى الأجهزة الأمنية ذات الصلة للرصد والمتابعة المستمرة وإعداد تقديرات الموقف وإصدار البيانات الإعلامية التى أرجو أن تقتصر على وزارة الخارجية.
ومن ناحية أخرى، فلابد من المزيد من الشفافية حول الوضع فى سيناء، ومشاركة الرأى العام فى تحمل مسؤولية الخطوات التالية، لأننى أخشى أنه حتى الآن لا يوجد التنبه الكافى.. لا يبدو أى تحرك مدروس.. ونزيف دماء شبابنا فى سيناء مستمر والمجرمون يفلتون من العقاب فى غيبة كاملة للشفافية، بحيث أصبح الرأى العام نهبة للإشاعات والدسائس، مثل تلك التى تشير إلى مباركة ما لبعض الفصائل الجهادية فى سيناء، أو إغماض العين عن حشد المتطرفين والسلاح.. وعلى حماس أن تتفهم وتقبل القيادة المصرية فى التحرك السياسى، وأن تراعى التنسيق الجيد فى كل خطوة تخطوها، وربما حان الوقت كى تتوحد رام الله مع غزة، وأن تتوقف تلك الأطراف التى تصب الزيت على النار، سواء أكانت أطرافا إقليمية أو داخلية، وأتصور أن الفلسطينيين لديهم من الذكاء والخبرة النضالية الكافية لتفويت الفرصة على هذه الأطراف.
ومن الطبيعى ألا ننساق وراء عواطفنا، وأن يحكم العقل والحساب تقدير كل خطوة تالية، وإذا واصلت إسرائيل تجاهلها للرسالة الواضحة التى أرسلتها القيادة المصرية، فإنه يجب النظر بجدية فى تجميد العلاقات الدبلوماسية، لأنه لن يكون مفهوما استمرار هذه العلاقات مع طرف يصر على إحراجنا وتهديد أمننا القومى ومصالحنا العليا، فذلك سلوك لا يتسق مع معاهدة السلام ويعتبر انتهاكا خطيرا من إسرائيل لالتزاماتها التعاقدية.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
محمد عبد الله
يجب أن يتحمل الجميع مسئولياتهم
عدد الردود 0
بواسطة:
خالد الشيخ
نستطيع ..إذا أصبحت القضية مركزية لجميع الدول العربية