الأزهر هو المنارة التى يستنير بها العالم الإسلامى كله فهو القلعة الشامخة التى يستظل بها المسلمون، فمنه وبه نشأت أجيال وشبت مجتمعات وارتوت عقول وقلوب من نهره حتى صار مصدراً لنشر القيم الدينية الوسطية السمحة.
كان المحرك الرئيسى للشارع المصرى فانطلقت منه مظاهرات لتغيير حكومات ووزراء حتى أصبح قبلة للقادة والزعماء الذين دأبوا على مخاطبة وده وود رجاله لما عرفوه من شعبية وتأثير على المصريين والحياة المصرية.
ومن هذه الأهمية فطًن الحكام والساسة إلى دوره فعمدوا إلى محاولة السيطرة على مقاليد أموره لتحقيق أغراض شخصية ومجداً يبغونه، فسعوا إلى تمييعه وتحييده وطمس هويته لتختفى هيبته ومكانته فى المجتمع.
بدأ الاحتلال الذى تناوب على مصر بأوجهه المختلفة تلك المحاولات، حيث حاول استمالة قادته ورجالاته فى محاولة منه لتطويعه إلى دور يريده، إلاً أن محاولاته باءت بالفشل.
فطن عبد الناصر إلى أن الأزهر لا يمكن مسخه إلا بتجريده من كل أسلحته التى يقود بها البلاد والعباد، فقرر أن يؤمم الأزهر بضمه إلى مؤسسات الدولة الحكومية ليصبح تابعاً يسير وراء الركب بعدما كان متبوعاً يقتدى به وله ومنه الرؤساء والشعوب ففقد ذاكرته وأصابه الشلل.
نجح عبد الناصر فى إضاعة دوره المحورى فربط كل مقدراته المالية والإدارية بالدولة، وجعل إمامها بالتعيين فأحنى له الكثير رقابه طمعاً فى المنصب والاستمرار فيه غير نفر قليل ظلوا على ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا.
فى الماضى كان الملك أو رئيس الدولة لا يعتدُ به ولا تعتمد ولايته أو حكمه إلا بمباركة الأزهر، فأصبح الأزهر يطلب اختصاصاته ومخصصاته ومنهجه ونهجه ممن امتلكه وامتلك مقدراته فأصبح تابعاً للدولة ومن قبلها للحاكم وبطانته.
ضاعت هيبة الأزهر بعدما ضاعت مكانته فى المجتمع باختفاء أرائه القوية الواضحة والتى كانت تستند فى حججها إلى قولة الحق حتى لو كانت فى وجه سلطان ظالم، فتحول إلى بوق يردد ما يراد له، فزادت الفجوة بينه وبين المصريين مما تسبب فى زيادة النفور منه كمؤثر سياسى وقائد يقتدى برؤيته، فانزوى عن الناس وانزوى الناس عنه وعن رجاله، فحاول الناس أن يلتمسوا فى غيره بديلاً فاستعانوا فى فتواهم بمُطلقى ومُفجرى الفتاوى ممن ادعوا العلم وتملقوه حتى ضاق الناس بـ"الفتايين" الجدد، وكلما ضاق بهم الحال كلما صبوا جم غضبهم على الأزهر الذى اضطرهم لهؤلاء ولولاه ما كان.
أما آن للأزهر أن يعود من غيبته وغيبوبته؟!
أما آن للأزهر أن يُحرر من كل قيود كانت سبباً فى عجزه عن العودة لدوره الريادى والقيادى والسياسى والاجتماعى، فضلاً عن الدينى ليعود منارة لمصر وللعالم أجمع؟!.
إن ذلك لن يتأتى إلا باستقلاله التام وتحرير كامل إرادته من ذُل التبيعة للدولة، وليتصرف بحرية مطلقة فى كل شئونه الداخلية والخارجية المالية والإدارية، وأن يكون اختيار الإمام الأكبر بالانتخاب الحر المباشر ولمدة معينة، فالأبدية فى الموقع يصيب الجميع بعد فترة بالجمود وقد يؤدى إلى الانهيار.
أؤمن بأن تلك المؤسسات لا بد أن تطهر نفسها بنفسها باختيار الأفضل والأنسب بعد تهيئة البيئة الملائمة للنهوض بها.
