"الشعب المصرى خلاص.. كسر حاجز الخوف"
هذه الخرافة تم التأكيد عليها على مدى عام كامل أعقب ثورة 25 يناير.. مئات الخبراء والمحللين فى مئات البرامج على الفضائيات كانوا يكررون الجملة بإلحاح شديد، وهم يتحدثون عن تطورات الأمور والأحداث فى العام الحافل الممتد بعد الثورة.. معظمهم ومعظمنا كانوا يرددون الجملة بحسن نية دون أن ندرك أننا نكرس للخرافة، وبالتالى نبنى أوهامًا عن استحالة عودة عقارب الساعة إلى الوراء أو عودة نظام مبارك أو إعادة صناعة الفرعون وقدرة الشعب على الوقوف بشكل حاسم ضد الفساد..
محاولة توصيف الثورة بأنه "كسر حاجز الخوف" فيه من الخلل ما يؤدى إلى خيبة الاستدلال.. فمبارك لم يحكم مصر بالخوف.. لم يكن النظام الأمنى فى عصر مبارك خانقا ومرعبا، كما هو الحال فى الأنظمة الشمولية التقليدية أو العسكرية أو الثيوقراطية.. صحيح أن أمن الدولة كان يتدخل فى معظم نواحى الحياة.. وصحيح أن القبضة الأمنية كانت قوية وغبية أيضًا.. ولكنها لم تكن خانقة أبدا.. لم يكن عصر مبارك مخيفًا من الناحية الأمنية، كما كان عصر عبد الناصر مثلا.. ولا حتى عصر السادات.. ناهيك عن المقارنة بنظم حكم موازية فى منطقتنا العربية منحت السطوة الأمنية مفاهيم أخرى لم يحلم بها هتلر نفسه فى زمانه.
مبارك لم يحكمنا بالخوف.. ولكنه حكمنا بالإحباط.. وهذا الإحباط هو الذى كسر الشعب المصرى حواجزه فى ثورة 25 يناير.. صدر إلينا مبارك شعورا مذلا ومهينا بأنه ليس فى الإمكان أفضل مما كان.. حدد سقف الطموح عند المواطن البسيط بالحصول على لقمة العيش وحدد سقف طموح السياسى بأن تتم استضافته فى التليفزيون المصرى أو أن يحصل حزبه على مقعد (من بين مائة مقعد) فى البرلمان..
فى السنوات الأخيرة من حكم مبارك.. لم أعرف مصريًا مثقفًا أو جاهلاً.. غنيًا أو فقيرًا.. شريفا أو فاسدا لا يتحدث عن الشعب المصرى بشكل عام إلا بكل سوء.. كانت نبرة النقد الذاتى بيننا نحن المصريين تقترب من جلد الذات حتى الإدماء.. نحن بطبيعتنا نحب السخرية ونتقنها.. وكانت سخريتنا موجهة إلى الشعب المصرى أكثر من أى شىء آخر.. وتحولت فى نهاية عصر مبارك إلى سخرية مريضة تفيض بالاحتقار والتشويه.. فإحباطنا وعجزنا عن التغيير أو حتى مجرد التفكير فى التغيير يدفعنا إلى الانتقام ولو بالتشويه والجلد والتحقير..
فى الـ18 يومًا، التى أسقطت مبارك.. كسر الشعب المصرى فعلا حاجز الإحباط.. فوجئنا بأننا بالفعل نستطيع أن نفخر بأننا مصريون.. نستطيع أن نحلم ونخترق سقف الطموح المتواضع، الذى وضعه مبارك فوق رؤوسنا.. وصلنا بآمالنا إلى عنان السماء.. وهذا خطير على الحاكم.. أى حاكم.. فهو بذلك مهما فعل لن يستطيع أن يصل إلى مستوى الآمال التى تنسجها العقلية الجمعية للجماهير.. لذلك لا يستطيع أى حاكم فى العالم المتقدم أن يستمر فى الحكم طويلا.. فبعد دورة انتخابية أو دورتين تخرج صناديق الانتخاب بشكل تلقائى التيار الحاكم من السلطة.. وتقدمها لتيار آخر يمتلك الطموح والخيال بعد أن يكون التيار الحاكم قد استنفد خططه وآلياته..
مبارك أدرك هذه المعادلة الجهنمية، التى تؤدى دوما إلى التغيير.. فقيد الخيال والأمل أكثر ما قيد الحرية.. قيد الطموح والأمل فى التغيير.. فامتلك سطوة لم يكن يستطيع أن يصنعها بالقمع والجستابو ومحاكم التفتيش..
فى الوقت الحالى يحاول كل من جلس على مقعد الحكم بعد مبارك أن يلعب نفس اللعبة.. أن يصدر الإحباط من جديد.. أن يجعل الناس تكفر بالقدرة على التغيير.. أن يتم تكريس القناعة التامة بأن القادم لن يكون أفضل.. وأن السياسة لعبة قذرة لا تحكمها إلا المصالح.. وطالما أن الأمور كذلك فلنسع إلى مصالحنا ولنحقق أقصى ما نستطيع من مكاسب وليذهب الحكم وأهله إلى الجحيم.
إنهم يحاولون غرس الإحباط من جديد.. فهو بالنسبة لهم أهم من الخوف.. الشعب الخائف يمكن أن ينتفض.. أما الشعب المحبط فلا تقوم له قائمة مهما دقت فوق رأسه الخطوب.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة