ينبغى أن يشعر أفراد هذا المجتمع بموقفهم من المجتمع نفسه.. ينبغى أن يكون لدى كل فرد فكرة عن الحياة العامة التى يحياها هذا المجتمع. وقلما يستطيع الهمجى أن يعى أنه فرد فى جماعة عامة وقلما يعمل الفكر فى وظائف المجتمع أو فى أغراضه. فإذا شعر أفراد المجتمع بوجود المجتمع نفسه فإنهم ما يلبثون حتى يؤلفوا فيما بينهم عاطفة اجتماعية غامرة تصبح هى المبدأ لكل ما يقوم به كل منهم: تصبح هى الباعث على كل أعمالهم المتآلفة، وهى التى تتحكم فى نظراتهم نحو أمثلتهم العليا، والذى يجب أن يتوافر فى المجتمع الراقى هو أن يكون على اتصال بسائر المجتمعات حوله. وقد يكون هذا الاتصال كفاحا؛ وقد يكون تفاهما سلميا. ولكن ينبغى على كلا الحالين أن يتصل كل مجتمع بالمجتمع الذى يليه؛ فإن المجتمع الذى يتصل بالمجتمعات الأخرى يتمسك بكثير من وجهات نظره هو نفسه. وكلما أمعن المجتمع فى الكفاح أو فى المتاجرة توضحت الأفكار العامة التى تسرى بين أفراده، وتبلورت المشاعر النفسية التى تحدد من معنى المجتمع والأغراض والآمال التى تحدوه، وشعر أفراده بأنهم أجزاء لكل واحد، ولوجود المجتمع الراقى أن يكون له مجموعة من التقاليد والعادات والعقائد. فكل ذلك يساعد على تنشئة المجتمع، لأن وحدة المجتمع فى نفسها تستدعى أن يكون لكل واحد من أفراده نفس النظرة إلى الماضى كما تستدعى أن يكون لكل منهم نفس النظرة إلى المستقبل. وآخرها أن ينظم أفراد هذا المجتمع الراقى وطبقاته بحيث يقوم كل فرد وكل طبقة بوظائف خاصة. فكل فرد يوجه إلى عمل خاص ما يزال به حتى يحسنه كل الإحسان. تلك إذن هى العوامل التى ينبغى أن تتوافر فى المجتمعات الراقية . ففكرة الاستمرار ، وشعور الأفراد بمجتمعهم ، والاتصال بالمجتمعات الأخرى، والتقاليد، والتنظيم والتخصص، كل أولئك تؤثر فى نمو المجتمع. فإذا هى اكتملت فى بقعة من الأرض كان المجتمع راقياً لأنها تميز المجتمعات الراقية، وإذن فليس الشعور الاجتماعى ساذجا ولا فطريا وإنما فى حياة المجتمع وجهات أخرى تجعله آية من آيات التحضر. ومثل المجتمع الراقى مثل الجيش المنظم فى الوقت الحاضر. فالجيش جماعة من الناس تتوافر فيها الأصول التى تقدمت، ففى الجيش تسرى فكرة الاستمرار، ويشعر الجندى بالجيش وكأنه كل هائل، والجيش يكافح، وله تقاليد، ولن يكون الجيش شيئاً إذا لم يكن النظام أساس كل عمل من أعمال أفراده . على أنك إذا أردت أن يطبق على أى مجتمع وجدت أنها معيار دقيق لرقى الجماعة أو انحطاطها ، ولتقدمها أو تأخرها . خذ مثلا المجتمع المصرى فى مصر القديمة. فقد خلق النيل والدين لمصر القديمة هذا العنصر المستمر الذى نلمحه فى كل عصورها. ثم كان المصريون أسبق أهل الأرض اتصالا بمن حولهم من الأمم وكانت لهم تقاليد ونظم . فالمجتمع المصرى مجتمعاً راقياً من أية ناحية بحثته . كذلك كانت الوحدة القومية فى العصور القديمة والحديثة وليست الوحدة القومية عندنا إلا نتيجة لهذا الشعور الاجتماعى المنظم. إنه هذا الشعور الاجتماعى الذى يعطف قلوب أهل الأرض الواحدة. وليست الوحدة القومية إلا وحدة الأسرة الفطرية الأولى أو القبيلة الفطرية الأولى لولا أنها عانت كثيرا من ضروب التطور حتى انقلبت إلى مجتمع راق يمتاز بما يميز المجتمعات الراقية . فالوحدة القومية بدأت جماعة فطرية يجمع بين أفرادها شعور واحد، واستمرت مئات السنين بل آلاف السنين فى بقعة واحدة حتى اشترك أفرادها فى كل المشاعر التى تتدفع بين جنوبهم. وكان لهم نفس الأفكار ونفس الآراء عما يعرض لهم من الحوادث. ثم كونوا فيما بينهم وحدة امتلأت بها أخيلتهم، وتكلموا عنها فى الدين والشعر والأدب، وألزمتهم أحوال الحياة أن ينظموا أنفسهم بأنفسهم، فتخصص أفراد منهم فى عمل من الأعمال، وتخرجت طبقات منهم فى ناحية من النواحى. وكانت كل هذه العوامل متكافئة تحدث فى نفس الوقت، وأنتجت فيما بينها أمة أو شعبــا.
فوزى فهمى غنيم يكتب: المجتمع الراقى والجيش المنظم
الثلاثاء، 13 نوفمبر 2012 09:09 م