تواجه هيئة الإذاعة البريطانية "بى بى سى"، والتى تعد واحدة من أعرق وأهم المؤسسات الإعلامية فى العالم، أزمة شديدة تهدد مصداقيتها واحترام الجمهور لها، نتيجة لأخطاء تحريرية فادحة سقطت فيها، ولم ينجح مسئولو المؤسسة فى معالجتها مما جعلها تواجه أزمة ثقة تحتم عليها وقفة جادة مع نفسها.
ولأنه "إذا فقدت بى بى سى الثقة، انتهى كل شىء"، حسبما قال كريس باتين رئيس مجلس أمناء الهيئة البريطانية، التى تمول من المال العام، فإنه أكد على ضرورة المبادرة بإجراء تغييرات جذرية وهيكلية بعد استقالة مديرها العام جورج إنتويسل.
أما عن أسباب الأزمة التى تواجهها المؤسسة البريطانية، فهما سببان رئيسيان كلاهما يتعلق بتعاملها مع فضائح جنسية تخص اثنين من الشخصيات الشهيرة سياسيا وإعلاميا فى بريطانيا.
فكانت فضائح مذيع بى بى سى جيمى سافيل، التى تم الكشف فيها عن تورطه على مدار سنوات طويلة فى اعتداءات وتحرش جنسى بالأطفال واعتداءات على مراهقات وقاصرات، أول العوامل التى هزت الثقة فى "بى بى سى"، بعدما تبين قصورها وتعمدها عدم إذاعة فيلم وثائقى تلفزيونى كان سيبثه برنامج "نيوزنايت" يتناول سلوكيات سافيل من اعتداءات جنسية على مدار أربعة عقود عملها خلالها مذيعا بتلك المؤسسة العريقة قبل أن يتوفى العام الماضى.
وربما كان الأمر ليمر مرور الكرام أو بقليل من الانتقادات فى دولة عادية، أو لو كان صادرا من مؤسسة عادية ليست فى حجم وثقل بى بى سى، فقد أدى تعامل جورج إنتويسل مع فضائح سافيل، ومحاولة التكتم عليها، وما تبين فيما بعد أن بعض المسئولين كانوا يعرفون أو نمت إلى مسامعهم أنباء عما يفعله سافيل ولم يقوموا بإجراء تحقيق فى الأمر، إلى اتهامات للمؤسسة ومديرها بالقصور ومحاولة تضليل البرلمان البريطانى.
وكانت صحيفة الإندبندنت قد كشفت عن بريد إلكترونى عبر عن حقيقة موقف بى بى سى من قضية جيمى سافيل، وتسرد الرسالة البريدية أسباب عدم بث تحقيق عن فضائح سافيل، قيل فيه إن الفتيات ضحاياه لم يكن صغيرات للغاية.
كل ذلك أدى إلى اتهام البرلمان البريطانى لمدير "بى بى سى" بافتقار غير عادى للمعلومات الخاصة بتلك القضية، خاصة بعد تصريحه بأنه علم بقصة فيلم نيوز نايت أثناء تناوله الطعام فى أحد الأحداث التى كان يشارك فيها، وقوله إن الغداء كان مشغولا ولم يرد أن يبد اهتماما لا مبرر له.
كما أن صحيفة "الجارديان" قالت إن أزمة هيئة الإذاعة البريطانية "بى بى سى" بشأن الفضائح الجنسية لمذيعها الراحل جيمى سافيل قد زادت حدتها بعد الاتهامات الموجهة لها بأن رئيس المعايير التحريرية بها قد ضلل البرلمان البريطانى.
وكان ديفيد جوردون، رئيس قسم السياسة والمعايير التحريرية فى الـ"بى بى سى"، قد قال للجنة الثقافة فى البرلمان، إنه أصدر بيانات عامة غير دقيقة بشأن طبيعة تحقيق "نيوزنايت" عن الانتهاكات الجنسية لسافيل، إلا أنه فعل ذلك قبل أن يتم إخباره بالطبيعة الحقيقية للبرنامج من قبل منتجه ميروين جونز.
ورغم الصدمة التى أحدثتها فضائح جيم سافيل فى بريطانيا، واهتزاز صورة بى بى سى كأحد تداعيات تلك الأزمة، إلا أن مديرها جورج إنتويسل، الذى تولى المنصب قبل أسابيع قليلة فقط خلفا لمارك تومبسون مديرها السابق الذى رحل ليتولى منصب المدير التنفيذى لصحيفة نيويورك تايمز الأمريكية، استطاع أن ينجو قبل أن تتكالب الأحداث عليه مرة ثانية، وبسبب فضيحة جنسية، لم تكن تخصه لكنها أنهت أيامه القليلة فى إدارة بى بى سى.
وأذاع برنامج نيوز نايت تقريرا زعم فيه أحد الأشخاص تعرضه لاعتداءات جنسية فى دار للرعاية فى أواخر السبعينيات، وألمح إلى أن المعتدى هو السياسى البريطانى العضو فى حزب المحافظين الستير ماك ألبين. إلا أن الشخص نفسه عاد وقال يوم الجمعة، إنه أخطأ فى تحديد شخصية المعتدى عليه، وأقر برنامج نيوز نايت أنه لم يعرض على الشاهد صورة ماك ألبين ولم يتصل به للتعليق قبل إذاعة التقرير.
ونتيجة لذلك، أعلن إنتويسل استقالته يوم السبت بعد يوم واحد فقط من تأكيده أنه باق فى منصبه، وقال فى تصريحات إذاعية، إنه لم يعلم مسبقا بالتقرير قبل بثه فى الثانى من نوفمبر الجارى، واعتبر أن استقالته شىء نبيل، وقال إن الأحداث الاستثنائية على مدار الأسابيع القليلة الماضية دفعته إلى الوصول لرأى بأنه يتعين على "بى بى سى" اختيار قائد جديد.
ولم يكن إنتويسل هو المسئول الوحيد الذى استقال، فأعقبه أيضا تنحى هيلين بودينن مديرة الأخبار ونائبها ستيف ميتيشيل وتسليم مسئوليتهما لآخرين، وذلك لمعالجة غياب الشفافية بشأن سلسة الترتيب القيادى فى قسم التحرير.
وبذلك، يبدأ مجلس أمنائها رحلة بحث يائسة عن مدير عام جديد، بعد استقالة جورج انتويسل، وذلك وسط تساؤلات صعبة بشأن تعامل الشبكة مع فضائح سافيل.
وانطلق البحث عن المدير الجديد فى الوقت الذى دعا فيه مسئولو الحكومة البريطانية المؤسسة العريقة والأكبر فى العالم من نوعها إلى العمل من أجل استعادة ثقة الجمهور فيها، حيث قالت وزيرة الأمن الداخلى البريطانية تريزا ماى فى حديث لتلفزيون بى بى سى، إن المؤسسة فى حاجة إلى استعادة الثقة والمصداقية لإعادة بنائها نفسيا كمؤسسة وطنية جديد وعلامة عالمية.
ورغم تلك الأزمة، إلا أن صحيفة الجارديان رأت أن بى بى سى تظل مؤسسة تحظى بالثقة والاحترام، وبإمكانها فى ظل القيادة الصحيحة أن تنجح.
ووصفت الصحيفة جورج إنتوسيل بأنه رجل محترم، وما فعله من تقديم استقالته نتيجة لوقوع فى خطأ تحريرى فادح كان محترما أيضا، لكنه كان فى النهاية مسئولا عن سوء تقدير كارثى بشأن اللورد أليستر ماك ألبين الذى وجهت إليه "بى بى سى" اتهامات بالتورط فى التحرش الجنسى، فى خطأ كان أسوأ من قصور المؤسسة فى التعامل مع فضائح جيم سافيل الجنسية أيضا.
وتمضى الصحيفة قائلة، إن استقالة مسئول رفيع المستوى فى بعض الأحيان يمكن أن تؤدى إلى السماح ببداية جديدة ونظيفة، لكن فى ظل التحقيقات التى تجرى وتبادل الاتهامات والقضايا القانونية، فإن هذا غير ممكن، والمشكلة الأولى التى تواجه القائم بأعمال المدير العام حاليا تيم دايف ورئيس بى بى سى اللورد باتين، هى كيفية إرساء الاستقرار فى سفينة بى بى سى الصحفية التى لا يوجد بها دفة، بينما يبحث قسم الثقة بالمؤسسة عن خلف جديد.
كما أن الفريق القادم يجب أن يحدد مصير برنامج "نيوز نايت" الذى ظل على مدار أكثر من 30 عاما أكثر برامج التلفزيون البريطانى مصداقية، لكنه عانى فى السنوات الأخيرة فى صراع مع تقليص الموارد، وليس من الواضح أن هذا يناسب هذا النوع الطموح من الصحافة الاستقصائية العنيفة الذى بدأ يثير القلق مؤخرا.
ورأت الصحيفة أن هذا البرنامج فى حاجة إلى التوقف لفترة قبل أن يعود فى شكل جديد.
أعرق مؤسسة إعلامية فى العالم توجه أزمة ثقة حادة تهدد مصداقيتها.. تعامل"بى بى سى" مع فضائح مذيعها جيمى سافيل الجنسية انتقص من مصداقيتها.. والأخطاء التحريرية والمهنية تجبر مديرها الجديد على الاستقالة
الثلاثاء، 13 نوفمبر 2012 09:18 م