منذ يوم ميلادى لم أجد وحدتنا الصحية فى القرية تعمل، ولم أجد المستشفى المركزى يستقبل المرضى، ولم أسمع أن مريضًا تم علاجه فيها، ولم أصادف طبيبًا يرق لضعيف أو فقير إلا نادرًا.
وأرى بعض أصحاب البالطو الأبيض فى صورتين الأولى تظهر فى المستشفيات العامة ويظهرون فيها بوجه خشبى أبلكاشى، وصوت حاد قاس لا تختلف نبرته، ولا يسمح للمريض بالكلام.
أما الصورة الثانية فهى بالعيادات الخاصة، حيث يستبدل بعض الأطباء الوجوه الخشبية بأخرى مرنة ضاحكة باسمة مشرقة، وأذن مصغية لكل ما يبدر من المريض من آهات وتخاريف، فكلامه زى العسل على قلب الطبيب، أما روشتة الطبيب ففيها ما لذ وطاب.
ولكن قبل أن تدخل العيادة عليك أن ترهن جزءا من بيتك، أو تستدين من جيرانك، أو تأخذ سلفة على المرتب، حتى تكفى الفيزيتا المستعجلة والمستعجلة جدا والكشف الفورى، وتتخطى الدور الذى لا ينتهى إلا مع الفجر، وفى النهاية تذهب لتشترى العلاج من الصيدلية، التى يثق فيها الطبيب، لأن الصيدلى صديقه ولن يغش زبائنه.
وتشعر أنك سقطت وسط من لا هم عند بعضهم إلا جمع الآلاف لتأثيث العيادة وشراء العربية فمع الأسف تحول بعض أصحاب القلوب الرحيمة والبالطو الأبيض إلى أشياء أخرى.
واليوم يتجمع السادة الأطباء، والسادة المعلمون، والسادة السائقون، وفئات عديدة من الموظفين، على طلب واحد إحنا عاوزين حقوقنا، ولم يفكروا لحظة واحدة فى هذا الوطن، من أين يأتى لهم بما يريدون، وتلك البلد من يحبها بحق، ومن يريد لها ألا تخرج من بئر الفقر والعوز، وهذا الشعب المسكين الذى مازال يحبو نحو النور، وكلما وصل إليه وجده ظلمة، حتى يبدأ مرحلة البحث من جديد عن النور، وللأسف فإن من يطفئون الأنوار عن هذا الشعب ويريدون له أن يحيا فى الظلام، إنما هم من أبنائه، والمدعين لحبه.
فهل يفيق السادة أصحاب البالطو الأبيض والمعلمون، ويعلمون أن مرضى مصر وتلاميذها يحتاجون إليهم، أكثر مما يحتاجون هم إلى الكادر.