واصل فى حقل الفكرِ الدعوةَ إلى تجديد الفقه الإسلامى، بتقنينه، وفتح باب الاجتهاد فيه، ومقارنته بالمنظومات الفقهية العالمية، ودخلت أحلامه وأفكاره فى تجديده، واستدعاء حاكمية الشريعة الإسلامية مرحلة النضج.
هكذا حمل السنهورى باشا_ منذ فجر حياته_ هموم أمته ثم تحولت هذه الهموم من نطاق العلم والخيال على الأوراق إلى ميادين العمل والإبداع والإنجاز فى التربية والتدريب والتقنين والتشريع، وفى المواقف الكبيرة، التى تجسد القيم والأخلاق، نماذج حية للأسوة والاقتداء فى واقع الحياة.
لم يكن الطريق أمام الدكتور عبد الرازق السنهورى للإصلاح سهلة، فقد اصطدم بالعقبات وقدم التضحيات إبَّانَ الاستعمار الإنجليزى أمام حكومات الأقليات الموالية للقصر الملكى _ حكومات الانقلاب على الدستور والقانون.
الدكتور عبد الرازق السنهورى باشا أديب الفقهاء، وفقيه الأدباء وعميد فقهاء القانون الدستورى فى العالم العربى وأحد أعظم القضاة فى القرن العشرين وصاحب الأحكام، التى انتصرت لحريات الأمة _ عندما رأس مجلس الدولة _ فى مصر خلال مرحلة الغليان السياسى والاجتماعى التى سبقت انقلاب 23 يوليو 1952 م.
"المدنية الإسلامية" اسم لكتابه الذى لم يتجاوز عد صفحاته المائة صفحة، لكنه يحمل بين دفتيه معانى كبيرة لخبير من خبراء القانون فى الوطن العربى، وعالم بمرامى الاختراق القانونى الغربى، الذى زاحم الشريعة الإسلامية، وأزاح فقه معاملاتها الإسلامى من فوق عرشه العتيد.
أراد فى كتابه أن يكون العالم على دراية بحقيقة المدنية وهل نجاحها ببعدها عن الدين أم بانبثاقها منه فيقول: "إن الإسلام دين ومدنية، وإن تلك المدنية أكثر تهذيبا من مدنية الجيل الحاضر، وإذا عجزنا أن ننادى باسم الدين، لأن عصر الأديان قد تباعد فمن مصلحة العالم– وقد فسدت قواعد الاجتماع التى يسير عليها– أن يلتفت إلى مدنية نمت وازدهرت فى عصور كان الجهل فيها مخيما على ربوع العالم الغربى، نحن مسلمون للآخرة وللدنيا، أما إسلامنا للآخرة فشىء نحفظه فى قلوبنا، وأما إسلامنا للدنيا فهذا ما ننادى به أن يُحترم".
إن مذهب التقليد للمدنية الغربية المادية هى المشكلة التى أرقت السنهورى ومن أجلها خط قلمه سطور هذا الكتاب الشيق، حيث إنه رفضها رفضا تاما، فجوهرها ترك الدين، وفى ذلك إساءة لمعنى المدنية، وقد بدأت المدنية بالدين وستنتهى بالدين.
فاختط لنفسه طريقًا ميز به المدنية التى يريدها بأمرين:
أولا: أن تكون ذات صبغة شرقية.
ثانيًا: أن تكون بمنزلة رد فعل للمادية المتغلبة على المدنية الغربية لتهذبها، ويعود لها الدين بعد أن ينقى مما خالطه من الأوهام والعصبيات.
قسم السنهورى باشا الجماعات الشرقية فى مصر إلى فريقين:
فالأول: متمسك بالماضى تمسكا أعمى، لا يتطور مع العصر فيجلب بذلك عداوة العالم المتمدين.
والثانى: يقطع حبل الماضى فلا يعود إليه ويقطع صلته به.
وعندما يُدخل المدنية الأوروبية فى مصر فهو لا يراعى تقاليد البلاد وتاريخها ومزاجها الشرقى.
وقال إن كلا الفريقين خطر فنحن نحتاج إلى أوروبا، ولكن ليس معنى ذلك أن نترك تقاليدنا القومية.
كما دعا إلى أنه قد حان الوقت لاستعادة مجدنا القديم لا بترك الدين، ولكن بتنقيته مما دُسَّ فيه من أوهام وخرافات، فالمتمسك بروح الدين أيا كان يجد اقترابا مع من يخالفه فى دينه؛ فينهض الشرق مسلمه ومسيحه، ويستعيد الشرق مدنيته بحماية الإسلام للجميع.
وضع نظرية جديرة بأن تكون أساسًا لجامعة شرقية لا تتناقض مع الجامعة الإسلامية؛ فمن الممكن أن يرى الباحث فى التعاليم الإسلامية تعاليم دينية أساسا لإنشاء مدنية دنيوية صلتها بالدين كصلة المدنية الغربية بالأخلاق أو بالدين المسيحى فى الأمم المتدينة.
ووصف الإسلام بأنه قوى لا تهضمه الجنسية ولا الاستعمار، وليس كما يحاول الغرب تحويله إلى عقيدة لا شأن لها بالقومية حتى يسهل عليهم تفريق الأمم الإسلامية.
هذه النظرية عِمادها نهضات أربع تحتاجها مدنيتنا:
1- نهضة الشريعة الإسلامية وجعلها صالحة للتقنين فى الحاضر.
2- نهضة اقتصادية ومالية فى مصر.
3- نهضة لإصلاح طرق التربية والتعليم.
4- نهضة لإصلاح اللغة العربية خاصة.
واعتمد عميد فقهاء القانون فى طريقته لتقسيم الكتاب على طريقة السرد والخواطر، وليس على الأبواب والفصول، وهو ما يجعل القارئ ربما يصعب عليه ربط أول الكتاب بالآخر إلا بعد أن تتبلور له فكرة الكتاب كاملة.
تكلم عن أهدافه الشخصية فى نهضة المدنية الإسلامية المذكورة آنفًا، واقترح عمل مؤتمرات لمقومات هذه النهضة من الجانب اللغوى، عربية وتركية وفارسية، ومن الجانب الاقتصادى ومن الجانب العلمى والثقافى، ثم تكلم عن تكوين الجامعة الإسلامية واشترط فيها شرطين حتى تقام: الأول: إزالة الخلاف بين العرب والترك.
الثانى: الحذر من عيون إنجلترا الساهرة.
ثم تكلم بعد ذلك عن الإسلام والشرق من حيث الخلافة الإسلامية، التى يبشر بها.
ويبدو أن رؤية الخبير فى إقامة الجامعة الشرقية أو الإسلامية فكرة جيدة؛ لعِظم أهدافها فى توحيد الأمم الشرقية بروابط اقتصادية ولغوية وقانونية وسياسية، لكنها تحتاج إلى عشرات السنين نظرا لتردى أوضاع بعض الدول والحكام الذين يعرقلون مثل هذه الأهداف.
ورؤيته فى الإسلام والشرق ونظرته للخلافة الإسلامية محل اهتمام كل غيور على أرضه وشرقيته، فقد تكون أحلام اليوم حقائق الغد، وكما قال: فكما كَثُرَ الحالمون فى أوروبا فى القرن الثامن عشر، يتمنون تنظيم جامعة تضم شتات الدول الأوروبية، فها نحن فى القرن العشرين نرى هذا الحلم أصبح يقينا فى جامعة الأمم بجنيف.
وتبشيره فى الإمبراطورية العربية، ليس ضربًا من التهويش للدعاية، فمعظم دول الغرب يعرفون جيدًا ما قدّر لهذه الرابطة العربية من نجاح وانتشار.
فهى كسائر الروابط تتكون من عناصر متنوعة: اللغة والجنس والدم، والتاريخ والتقاليد، ويعزز ذلك فيها وحدة الدين فى الكثرة الغالبة، وتقاليد التسامح الدينى، ورؤية الأقلية غير مسلمة إخوان للمسلمين.
وضع للإمبراطورية العربية أسس تتميز بها من الناحية الاقتصادية، حيث التنقل بين البلاد والتجنس، ومن الناحية الاقتصادية؛ حيث دراسة الأسواق العربية والتبادل التجارى، والناحية الثقافية من حيث اللغة والتاريخ والفلسفة والعلوم الإسلامية والتعليم العالى والاقتصادى والقانونى.
ختم السنهورى كتابه ببيان أن قوة الوحدة وعزتها تبدأ بميثاق عربى بين مصر وسوريا وشرق الأردن، ويفتح الباب لباقى الدول العربية يتضمن المبادئ التالية:
1- إعلان عدم مشروعية الحرب، ووجوب تسوية ما بينهم من خلافات بطريقة التحكيم.
2- محالفة دفاعية ضد أى اعتداء.
3- توحيد التمثيل السياسى للدول الموقعة على الميثاق.
4- توحيد اتجاهات السياسة الخارجية.
5- توحيد نظام الجيوش.
6- ضمان حقوق الأقليات.
7- إنشاء مجلس دائم للاتحاد العربى.
صورة ارشيفية
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
▃ ▅ ▆ █ احمد يونس █ ▆ ▅ ▃
ياريت