"أنا وأنت وهو وهى وهم وهن" وجميع من بـ"الكون" سيعبرون الطريق إلى رمز رحلة الحج.
الجالس فى سيارته الفخمة الفارهة، تنبعث منه رائحة العطور النفاذة الغالية، يحلى إصبعه خاتم لامع مرصع بفص غال ثمين، يدخن السيجار فى نشوة، هانئاً بهواء التكييف المنعش، مستمتعاً بنغمات الموسيقى الهادئة التى تنبعث فى رقة من كاسيت السيارة الفخم، ذو الصوت الرخيم، بينما سائقه يطوى الأرض بالسيارة، يقوم هو بالعبث فى أوراق حقيبته الأنيقة، أوراق عقود شراء قصور وأراض وشركات جديدة، ليضاعف من أرصدته فى البنوك.
سيأتيه فجأة ساعة العبور إلى حيث طريق يشبه رحلة الحج.
الجالس فى حانوته الصغير الضيق، ساعة تليها ساعة، لايقف ببابه مشتر، ولايمر به عابر، وحصالة نقوده خاوية، يهزها الريح، لايمتعض ولايهتز، فاليوم مثل الأمس، ويبدو أنه مثل الغد، يعود ببضعة قروش إلى زوجته العجوز، فيكفكفان أحزانهما ويتناولان لقمة جافة مغموسة بقطعة جبن، وأعواد جرجير، و خلفه كثيرا من الماء، ويأويان إلى مضجعهما ينتظران اليوم التالى.
ينتظران فيه ساعة العبور إلى الطريق الذى يشبه رحلة الحج.
فالكل سيمر بهذه الرحلة "الجبرية غير الاختيارية" لا محال.
فرحلة الحج تعبير ورمز لآخر رحلة يقوم بها كل كائن على الأرض، حيث يخرج من عالم عرفة ليدخل إلى عالم آخر مختلف لا يعرفه، من عالم كانت له فيه إرادة الرغبة والقول والفعل، إلى عالم ليس له فيه رغبة ولابيده فيه أى فعل أو قول، من عالم كان له فيه القرار والأمر والنهى والإشارة والاختيار إلى عالم، هو فيه مأمور مطيع لكل أمر مسئول عن كل قول، من عالم الاستغراق فى الذات إلى عالم الحساب عن الذات .
رحلة الموت وارتداء الكفن الذى يشير إليه زى الإحرام فى الحج، حيث يترك الحاج أهله وماله خلف ظهره، ليفكر فى ما هو آت من مناسك، تماما مثلما نزع إبراهيم الخليل حبه وهواه لأهله، وغادر المكان فى طريقه لدعوته فى فلسطين، تاركا زوجته وطفله الرضيع فى واد غير ذى زرع، ولا ثمر ولا شجر ولا ماء ولا طعام، ولم يستجب لنداء زوجته التى ظلت تعدو خلفه "إلى من تتركنا يا إبراهيم؟ ولما قرأت صمته وعرفت منه أنه يطيع أمر ربه، ردت فى ضميرها، لن يضيعنا الله" .
وكان الأمر الإلهى بذبح الابن إسماعيل، هو المعنى السامى بذبح كل حب فى القلب دون حب الله، والتخلى عن التعلق بالهوى داخل النفس، والسمو بها فى عشق إلهى والانصهار فيه، خلو القلب من حب الحياة والتشبث بزخارفها الواهية الفانية.
واستجاب الوالد الكهل لأمر ربه، ولم يعر اهتماماً لكون ابنه وحيداً لا يملك غيره، ولكونه فى ريعان شبابه، ولأنه يحبه إذ رزق به، وهو شيخ عجوز، يشير كل هذا إلى طاعة تامة لله، ولو تعارضت مع أهوائنا ورغباتنا، ولم تكن الطاعة فقط من الوالد المسكين، وإنما أيضا من الابن الفتى إسماعيل، الذى اقترح على أبيه أن يقوم بالذبح بعد أن ينكفىء الفتى على وجهه، لئلا تتلاقى عيونه بعيون أبيه، فتأخذه به شفقة الأب وتمنعه عن طاعة أمر ربه، بل أردف قائلا لأبيه "يا أبت، لو سألتك عنى أمى فأخبرها أننى ذهبت إلى من هو أفضل، وأننى فى مكان آمن ورزق وفير".
فساعد إسماعيل أباه على طاعة ربه ولو كان ذلك على حساب دمائه وحياته.
فماذا كان الجزاء من ربهما، وهو جزاء كل من يقدم أمر الله على أمر هواه، أن يحميه الله من كل مكروه ويستعيض صبره وتضحيته ويجزيه خير الجزاء، ويقدم له كبشا يفدى الابن ليهدأ قلباهما المكرمان.
ثم يقف الجمع بعرفات، حيث يشير إلى القيامة، تقف فيها الجموع المتدفقة من أقصى الكون وأدناه، مختلفة الأجناس والقامات والأشكال والألوان دون تمييز، ولا تفريق بينهم، يتوحدون فى ردائهم، كما يتوحدون فى دعائهم وندائهمن ولهفتهم لعفو الله ومغفرته، فهم فى إحرامهم كما هم فى أكفانهم البيضاء، وفى شدتهم وزحامهم، كما هم فيه يوم القيامة.
ثم تكون الاستجابة من الله لدعوة ونداء كل من تنازل عن حبه لهواه، وحبه للدنيا، وآثر عليهما محبة الله والاستجابة له.
"سلام عليكم بما صبريتم فنعم عقبى الدار".
صورة أرشيفية
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
محمد الشيخ
ليتنا لاننسىة
عدد الردود 0
بواسطة:
محروس عبد الفتاح
سلمت يدك
عدد الردود 0
بواسطة:
السيد عبد الكريم
نسأل الله السلامة
نسأل الله السلامة لنا ولامة محمد