أحمد إبراهيم الشريف يكتب: محاكمة نجيب سرور

الخميس، 25 أكتوبر 2012 02:08 م
أحمد إبراهيم الشريف يكتب: محاكمة نجيب سرور الشاعر الراحل نجيب سرور

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء


هناك علاقة بين نجيب سرور وسيدنا الحسين، تكمن هذه العلاقة فى التشابه بين المثقفين محبى نجيب سرور وشيعة الحسين، فكلا الطرفين يعترف بأنه أخطأ فى حق صاحبه وخذله.. ولذا الفريقان يكفران عن ذلك بالاحتفال والتألم للفقد.. وكما كان مقتل الحسين علامة فارقة فى التطور السياسى للحكم وتأكيد نظرية "المُلك" الذى أقره معاوية ويزيد.. كانت وفاة نجيب سرور ترسيخا وتأكيدا للقهر الذى يلقاه المثقف الذى يغرد حرا خارج الدائرة.

كما يمكن القول أيضا بأن لنجيب سرور حضورا مختلفا.. حيث يبعث فى أذهاننا أسئلة متعلقة بالثقافة والسلطة والعلاقة بينهما والمأزق الثقافى الذى تجد السلطة نفسها متورطة فيه، كما يطرح أسئلة متعلقة بمفهوم "الحظيرة" و"البرج العاجى" و"الانسحاق"
و"التبعية" و"التوجيه".

وفى ذكرى وفاة نجيب سرور نقف مع وصيته الشهيرة.. والتى كتبها لنا.. وكأنما كان يدرك أن القادم مختلف "والاختلاف لا يعنى أفضلية".. فى هذا المختلف مطالبون نحن بقراءة هذا التاريخ الثقافى، والذى يحمل قراءة موازية للقراءة السياسية للتاريخ المصرى المعاصر.

يقول نجيب سرور فى مفتتح ديوان "لزوم ما يلزم":
"قد آن يا كيخوت للقلب الجريح، أن يستريح/ فاحفر هنا قبرا ونم/ واكتب على الصخر الأصم/ يا نابشا قبرى حنانك هاهنا قبر ينام/ لا فرق من عام ينام وألف عام/ هذى العظام حصاد أيامى فرفقا بالعظام"..

هذه الوصية قاسية جدا تجعل الموت هو الاختيار الأفضل/ الراحة، وتجعل آخر الذى يرجوه الشاعر هو الرفق بعظامه/ حياته/ تراثه.. ورغم أن نجيب سرور أراد أن يخفف الأمر علينا، لا عليه هو، بأن جعل النوم بدلا من الموت.. لكن القبر المفتوح والعظام المتبقية والشاهد المنتصب كل ذلك يحمل كماً من الدلالات..

وعندما ندرك أن هذا الديوان كتب تقريبا فى العام 1963.. نجد أنه كان مبكرا جدا على هذه الأفكار اليائسة التى عانى منها نجيب سرور، ولكن رغم هذا كان النظام الكئيب قد كشر عن أنيابه فى مواجهة الفنان.. فسحب منه الجنسية المصرية وشرده فى المجر..

وفى وصيته لم ينهنا نجيب سرور عن نبش قبره ـ كان يعرف أن ذلك سوف يتم سواء رضى أم لم يرض.. لكنه طلب منا أن تكون قلوبنا رقيقة عندما نفعل ذلك.. كان يعرف أن ميراثه كله ملك لنا نحن أبناءه الذين حملنا وزر دمه.. فأصبح نجيب سرور ملكا لنا..

مات نجيب سرور فى مستشفى "النبوى المهندس.. أو كما تقول ابنة أخيه أمل ثروت سرور: "مات فى بيتنا على سريرى الصغير بعد خروجه من المستشفى".. عموما مات نجيب سرور فى 24 أكتوبر 1978.. وترك خلفه ستة دواوين شعرية "التراجيديا الإنسانية، لزوم ما يلزم، بروتوكولات حكماء ريش، رباعيات، فارس آخر زمن، والطوفان الثانى" وديوان الطوفان الثانى لم يكتمل.. أكمله نجيب سرور بموته وبإصراره على موقفه.. وبوقوفه فى وجه النظام.. وأكمله محبو نجيب سرور عندما حولوه لأيقونة للعلاقة بين المثقف الواعى والنظام الطاغية.. أصبح نموذجا لتلك العلاقة الشائكة التى ينبغى أن تعاد صياغتها من جديد فى ظل هذه الأنظمة العربية الجديدة الحالية قبل أن تتحول هذه العلاقة إلى قدر وتتحول هذه الأنظمة إلى خيوط عنكبوت تمسك برقابنا.

وفى ذكرى وفاة نجيب سرور يمكننا أن نمارس على المستوى الافتراضى نوعا من محاكمة نجيب سرور.. ولنا أن نصدر حكما متخيلا يتعلق بقضية الفنان المأزوم الذى يضطهده المجتمع.

ما التهم التى وجهت لنجيب سرور والتى على أساسها عانى الكثير والكثير من قِبَل نظام أحادى الرؤية/ والذى يتفق كثيرا ونظامنا الحالى؟

اتهموه بالإساءة للوطن فى موسكو.. عندما اعتلى المنصة وهاجم النظام الناصرى الذى لا يقيم شأنا للديمقراطية.. اتهموه بارتكاب العنف فى مشاجرة مفتعلة فى أحد مطاعم موسكو.. وعندما عاد إلى مصر 1966 بعد أن كتب رجاء النقاش عن أزمته كانت الشيوعية قد أصبحت تهمة ضد الوطن فاتهموه بها.. ثم عادوا واتهموه بالإساءة بعد أن كتب "الأميات".. وفى النهاية كانت التهمة الكبرى "الجنون".. إذن يمكن القول باختصار إن التهم التى وجهت لنجيب سرور أنه "شيوعى، يعمل ضد وطنه، مجنون"...

وبناء عليه قاموا بالآتى: سحبوا منه جواز سفره وترتب عليه سحب الجنسية المصرية ومنع عودته إلى مصر.. ونفيه إلى المجر.. وبعد عودته إلى مصر تم فصله من أكاديمية الفنون بعد عمله فى تدريس الإخراج والتمثيل.. بعد ذلك تم إدخاله مستشفى "الصحة النفسية فى العباسية، حيث تمت مراسم التعذيب مكتملة فى هذا المكان.. بالإضافة إلى منعه السكن والرزق كل ذلك تم بطريقة ممنهجة"..

هذا هو الادعاء وهذا هو الحكم الذى لقيه نجيب سرور فى حياته ولفترة طويلة بعد موته.. ولكن لنا أن نعيد قراءة هذا الادعاءات مرة ثانية فى ظل أننا نفكر اليوم بطريقة مختلفة.. وأننا نقف خارج الإطار الثقافى وأننا قادمون على أطر ودوائر ثقافية نخشى أن تكون مشابهة لتلك الأنظمة والدوائر الثقافية السابقة..


التهمة الأولى: شيوعى.... الشيوعية فى حد ذاتها ليست تهمة كى ندافع عن نجيب سرور لأنه شيوعى.. فالإنسان حر فى اعتناق ما يراه من أفكار وهذا أمر يخصه ولا علاقة لأى إنسان بأفكار الآخرين..

التهمة الثانية: أنه يعمل ضد وطنه.. تهمة وجهت لنجيب سرور لأن صوته كان مختلفا، ولأنه لم يتغنَ بالنظام القائم ولم يهادن.. ولأنهم اختصروا الوطن فى النظام واعتبروا المختلفين أعداء لهم وللوطن.. نجيب سرور من خلال مسرحه وقصائده يسعى لصورة وطن حقيقى يليق باسم مصر يضمد جراحه طوال الوقت.. وهو عندما يهاجم فإنما يقصد الأمر القائم الذى انتهى إلى نكسة ومن بعده الذين حول النصر إلى هزيمة.

التهمة الثالثة: الجنون.. أبدا لم يكن نجيب سرور مجنونا.. كيف ونصوصه الشعرية التى كتبها فى أواخر حياته مملوءة بالوعى والرؤية.. علينا أن نعود إلى "الطوفان الثانى" والذى كتبه عام 1978 كى نجد روحا شعرية ممسكة بخيوط الكتابة، وتكفى قصيدة "الخامس عشر من آزار" لنبصر الرؤية الواضحة.

رحل نجيب سرور وترك لنا إرثا مسرحيا وشعريا ونقديا.. ونحن محبوه ولا أقول نابشو قبره.. نحاول أن نتلمس خطواتنا فى قراءته.






مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة