معصوم مرزوق

تنويعات على لحن العبور

السبت، 20 أكتوبر 2012 04:58 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
«1»
التاريخ: السادس من أكتوبر 1973.. الواحدة بعد الظهر.. المكان: موقعى فى جبهة القتال ضمن قوات الصاعقة المصرية فى الجيش الثالث الميدانى.

التاريخ: السادس من أكتوبر 2012.. الواحدة بعد الظهر.. المكان: منزلى فى مدينة السادس من أكتوبر.

تسعة وثلاثون عاماً.. «كنا مجموعة أطفال فى خط الجبهة، صرنا بمرور الوقت شيوخا»، هكذا كتبت بعد العبور مباشرة، ولكننى الآن بحساب الزمن الحقيقى أدخل هذا النفق، أصبح «أكتوبر» شاباً عفياً، بينما أصبح صانعوه شيوخاً.. وما بين «أكتوبر» التاريخ «حرب العبور»، وما بين «أكتوبر» الموقع «مسكنى»، مساحات من الزمان والمكان، ولكن هناك مساحات أخرى أخطر وأهم من عواصف وأعاصير تجتاح الفكر والمشاعر.

كنت فى الملجأ القابع تحت الأرض -فى سنوات الانتظار- أقرأ الشعر على رفاقى، وفى المساء كان يغنى لنا الجندى مصطفى أغنيات -أتذكرها اليوم متعجباً- مثل «المسؤولية، صورة، بالأحضان».. كانت تلك هى «الأغنيات الشبابية» فى عصرنا الذى فات واندثر.. كنا نغنى، نحكى عن حبيبات لنا ينتظرن إجازاتنا الميدانية بشوق ولهفة، كنا نبكى.. آه كم بكينا، كلما شاهدنا على الضفة الأخرى ذلك العلم الأبيض ذى النجمة السداسية الزرقاء.

«2»
محمد الدرة، ذلك الطفل الفلسطينى الذى كان يحاول الاختباء فى صدر أبيه، قتلته رصاصة إسرائيلية، شاهدت ذلك فى «أكتوبر» الموقع على شاشة التليفزيون، كنت مستلقياً فى استرخاء، أرتشف كوباً من الشاى وأجذب أنفاساً وادعة هادئة من سيجارتى، إلا أن «الجندى» القابع فى أعماقى بدأ ينغز فى الجزء الأيسر العلوى من صدرى، ذلك الجندى فيما يبدو يصر على قتلى، تذكرت «أكتوبر» التاريخ، عندما كانت تلك الصبية الجميلة تلقانى سراً فى كل إجازة ميدانية، قلت لها ذات يوم: «كيف نتزوج؟.. أنا أعشق الأطفال.. ولكن كيف أرضى أن يولدوا كى يعيشوا هذا الهوان؟».

نظرت إلى طفلتى «ميسرة» كانت تضحك وتلهو فى براءة، وأمها تروى لها بطولات أبيها فى «أكتوبر» التاريخ.. عندما سقط الطفل الفلسطينى، أدمعت عينا زوجتى، انزعجت ميسرة محاولة أن تفهم سر حزن أمها، شعرت أن عيون الحبيبتين مصوبتان كاتهام ضدى، ضد رجولتى، وجدواى، ضد كل ما رويته عن النبل والبطولة والعزة والكرامة، فهربت بعينى بعيدا.. نهضت إلى الشرفة.. صحراء مدينة السادس من أكتوبر تحيط بالمكان، وقد كانت سيناء أيضاً صحراء، ولكن المكان غير المكان، والزمان غير الزمان.

«3»
قبل دقائق من العبور رفض الملازم عبدالبارى يدى الممدودة بتمرة كى يفطر، أكدت له أن الأوامر من القيادة أن نفطر، فابتسم تلك الابتسامة العذبة التى كانت تضيئ وجهه الأسمر، قال لى ببساطة وهو يشير بعينيه للضفة الأخرى: «نفطر هناك بإذن الله يا دفعة».. قد أفطر هناك بالفعل، فقد كانت الرصاصات الإسرائيلية هى أول ما دخل إلى جوفه. هل تذكر يا عبدالبارى وأنت فى مقامك العلى تلك الأيام التى عشناها سوياً فى الكلية الحربية، وفى خنادق الجبهة، كنا أطفالاً فى العشرين، أصبحنا بعد مرور الوقت شيوخا، هل تذكر الشعر الذى كنا نتلوه، والأحلام التى كنا نرضعها، وتلك الحبيبة «ترى أين هى الآن؟».. وهل ترى ما نراه حالياً ونسمعه؟.. كم أشعر بالحنين إلى تلك الأيام المتفوقة، هل تعرف يا عبدالبارى أننى أكتب الآن فقط كى أترك لطفلتى «ميسرة» ذكرى تلك الأيام، فقط تلك الأيام.

«4»
من أكتوبر الموقع أقرأ عن مخازى بعض رجال الأعمال، ومشاكل المرور، وأزمة النائب العام، والعمليات الجارية فى سيناء، ومحاولات كسر الحصار المفروض على غزة منذ أعوام.. وينغزنى ذلك الجندى القابع فى الجزء الأيسر العلوى من صدرى.. روى لى شاب من العائلة عن بعض همومه، وعن بعض تطلعاته و.. تذكرت فجأة همومنا فى أكتوبر التاريخ، شعرت بهامتى تعلو، لقد كنا نحمل مصر كلها فى صدورنا وعقولنا، فما الذى يحمله شباب اليوم؟.. سقط الطفل الفلسطينى محمد الدرة ولكنه لم يسقط وحده..!!

«5»
جلست أمى بين الأحفاد تنظر نحوى، وهى تحكى لهم عن ذلك اليوم «سقطت صورة خالكم من مكانها يوم 23 أكتوبر.. انقبض قلبى، وجدت نفسى أصرخ وأبكى، خرجت إلى الشارع أسير فيه دون هدى، أتطلع إلى السماء ضارعة».. ظهر ذلك اليوم، ورغم الإعلان الرسمى لوقف إطلاق النار، كنت أقود وحدتى الصغيرة فى أشد معاركنا صعوبة، فقد كنا ننفذ كميناً على المدق 12، استشهد أكثر من نصف الوحدة فى هذه المعركة غير المتكافئة، فقد كنا نواجه دبابات العدو بأسلحتنا الصغيرة، ورغم أنه من المفترض أن قوات الصاعقة تعمل غالباً فى الليل، فقد قاتلنا فى عز النهار، يا أمى -قلت لها ونحن نجلس فى أكتوبر الموقع- لقد سقطت الصورة، وبقى الأصل، والمصيبة هى أن يسقط الأصل وتبقى الصور الزائفة محاصرة لنا فى كل مكان.. ذلك هو الفارق بين أكتوبر التاريخ، وأكتوبر الموقع.

«6»
أتوكأ عليك يا «ميسرة».. عصاى التى أهش بها على أحلامى.. خذى عصا التتابع من بين أصابعى.. أريد من عينيك وعداً بأن أكتوبر التاريخ «لن يتلاشى من تاريخنا، وبأن القدس عائدة لنا، وبأن جيلك سوف يمزق تلك الصور الباهتة الزائفة، وينقب فى الأرض عن أصل الحكاية، ستجدين فى أوراقى بعضاً من ملامحها، وفى دولابى «أوفارول» قديما حمل بين أنسجته حفنات من رمل سيناء، قطرات من دمائى ودماء الرفاق، لا تسمحى أبداً بأن يموت الأطفال غدرا.. ذلك هو كل ما أمتلكه كى ترثيه، وأكاد أراك وأنت تقاربين ما بين أكتوبر التاريخ وأكتوبر الموقع.. أكاد أرى الخلاص فى عينيك.








مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
التعليقات 4

عدد الردود 0

بواسطة:

محمد عبد الله

أول الغيث قطرة

عدد الردود 0

بواسطة:

خالد الشيخ

رائع ما جاد به قلبك من وطنية انت اهل لها

عدد الردود 0

بواسطة:

معصوم مرزوق

الصديق الفاضل الاستاذ خالد الشيخ

عدد الردود 0

بواسطة:

خالد الشيخ

الأستاذ الفاضل معصوم مرزوق

اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة