إننى لا أستطيع أن أنسى منظراً أثار دهشتى فى مصر.. شارع به جميع أنواع المواصلات التى خلقها الله عز وجل أو صنعها الإنسان، المترو وعربات الكارو والأتوبيس والسيارات والخيل والحمير والدراجات، ولا ينقصه إلا المراكب.. والزحام لا يمكن وصفه.. وبين السيارة والأتوبيس شعرة، وبين الماشى والماشى لا شىء سوى البهدلة، أو بالأقل اتساخ الملابس إذا لم يأخذ الشخص منتهى حذره.. ولكن العجب الذى استولى على هو رؤيتى دراجة عليها شاب يحمل ثلاثة طوابق من الخبز، بيد واحدة، وباليد الأخرى يمسك (بجودون) الدراجة، ويمرق بما يحمل بين هذا الزحام مروق السهم دون أن يفقد التوازن فحسبته نجما من نجوم السيرك، وسألته كم تتقاضى على ذلك، فقال: عشرة جنيهات، إنها فى اليوم الواحد طبعاً، كدت أصعق، ولكننى رأيت ما هو أعجب.. شخص آخر على دراجة هو الآخر، يحمل عليها "عجلى" جاموس.. كل رأس عجالى معلق على طرفى مقعد الدراجة، أما "المصارين" والكوارع والجلود فتتدلى من الوسط، وبقية الذبيحة مبقورة البطن موضوعة أفقيا خلف مقعده، تظهر منها "الكستليتة" و"بيت الكلاوى"، أما "الكرشة" والفشة والكبدة والطحال وخلافه فهى مربوطة فوق أكتافه، وهو أيضا يمرق بحانوت الجزارة هذا الذى يحمله على الدراجة مرور السهام بين كتل الزحام دون أن يمسه سوء!.. العجيب أننى أتحدث عن ذلك بروح الانبهار ولم أكن لأتحدث عن ذلك بروح الانتقاد.
ولو تصورنا أن هذا يحدث فى باريس.. طبعاً، إن باريس لا يمكن أن يكون فيها شارع بهذا الشكل، ونفرض أن دراجة مرت فى شارع بباريس على هذه الصورة، إنها تصبح أعجوبة، وتتناولها كاميرات التصوير، ويصطف المارة على جانبى الشارع يشاهدون ويصفقون. ألا تدرك أن مثل هذا العمل من المهارة ما يثير الأعجاب. ومع ذلك فالمارة عندنا لا يلاحظون ذلك، ولا يحفلون به.. الواقع أن الأوربيين شديدو الملاحظة لما عندنا من مهارات والأعجب من ذلك.. كنت مع جماعة من الأصدقاء نتناول طعام الغداء فى مطعم شعبى للشواء فى حى من أحياء القاهرة الشعبية، بعض هذه المطاعم معروف من عشرات السنين، ومزدحم دائماً بالزبائن وهو قلما يغير من مظهره، كأن الدنيا واقفة منذ أول إنشائه، لا يخطر بباله أن يغير مرة من لون مناشفه أو مفارشه، أو حيطانه، وجدت ذات يوم هذا المظهر فى عيادة طبيب كبير، المقاعد والأثاثات والأبسطة العتيقة الممزقة يغطيها التراب. كل شىء عتيق ومترب مهمل وكان العنكبوت ينسج خيوط التاريخ القديم على المكان، فيوحى إليك أنك فى عيادة الطبيب الخاص لخوفو أو خفرع!.. سألته مرة فى ذلك فقال إنه يستبشر بهذا ويتفاءل، لأن العيادة على هذا النحو من قديم جاءت له بالنجاح، وأنه يتشاءم من أى تغيير.. ولست أدرى ما هى الصلة بين النجاح الأول وبين الوقوف عنده بلا تغير.
هذه أمثلة بسيطة تحضرنى، ولها ألوف من النظائر، وهى تدل عندى على أن ( مصــر) عندما تفقد قوتها الفكرية لسبب من الأسباب، فإنها لا تموت لأنها لا تعرف الموت، ولكنها تعوض ذلك فى الحال بالمهارة اليدوية.
صورة أرشيفية
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
إبراهيم أبو زهرة
.................. !