بعيداً عن التنظير، والرغى الذى يملأ الفضائيات، شاهدت إحدى حلقات برنامج "هذا خلق الله"، فرأيت مأساة فى أقسى صورها، الظلم كأصعب ما يكون، القهر.. شاهدت جريمة لا تحتاج أدلة ولا أحرازاً ولا شرائط مصورة، مهما ذكر فى هذه السطور لا يمكن وصفها.
هو مكان فى قرية تسمى "حجر الدهسة" فى محافظة قنا، يعيش أهلها فى فقر مدقع، بعيدا عن الأنظار، لا يعرفون طريق الاستديوهات، ولا يعرف الإعلام طريقهم، فهم لا يقطعون الطرق لزيادة راتبهم، ولا يعتصمون.
داخل منزل إحدى هذه الأسر، تجد الامتهان والهوان.. البيت لا أثاث به، لا مطبخ، لا دورة مياه، لا يتوافر به أدنى سبل المعيشة، مجرد بيت من الطين قد تكون العشوائيات بالنسبة له رفاهية وطموح.
ربة هذه الأسرة امرأة تندهش من قوتها وصبرها، لا يفارق لسانها ذكر الله وحمده، لا تعرفها جمعيات حقوق المرأة، فهى ليست سيدة مجتمع، ولا تطلب الطلاق أو ترغب فى الترشح للرئاسة.. لا تعرفها الحكومة ولا الفضائيات، فهى ليست ناشطة سياسية أو محللة استراتيجية.
تستقل هذه المرأة المواصلات حتى تحضر الخبز لأولادها، فلا يوجد مخبز فى قريتها.. تحتفظ بما يتبقى من خبز بعد أن يأكل أطفالها، فتقوم بنتشيفه وإزالة العفن العالق به ثم تضعه على عدس أو بصارة لتكون وجبة تطعم بها أسرتها فيما بعد، بجانب "بلاص المش"، الذى ترى المرأة أن الدود الذى يملأه لا يضر ما دام "منه فيه"، أما عن مياه الشرب فهى تفضل مياه المزارع، حيث إن المياه عندهم مثل "بول الحمير"، على حد وصفها.
وما دام الحال هكذا، فلا تعجب حين تعلم أنها تحتفظ بـ"عظمة" كذكرى تحيى فيها الأمل فى الحصول على اللحم مرة أخرى، بعد أن كانت حصلت على القليل منه فى عيد الأضحى الماضى، ثم تبتسم وتقول: "هانت العيد قرب".
هذه المرأة لا تحسن الحديث عن توقعاتها المستقبلية فى الاستديوهات، فهى لا تعيش الحاضر.. لا تستطيع الهتاف فقد اعتادت ألا يسمعها أحد، ولكن قوة احتمالها واحتواءها لأسرتها، وصبرها.. هى رسائل إلى المجتمع كله.
رسائل إلى ضيوف الفضائيات، ومرشحى الرئاسة المحتملين ونواب الشعب القادمين، تذكرهم بأن تقرير التنمية البشرية للعام 2011 يؤكد أن نسبة الذين يعانون الحرمان فى مصر بلغت 40.7%، ونسبة المعرضين للفقر 7.2%، وأن 1% يعانون من فقر مدقع، و2% تحت خط الفقر يعيشون بـ 1.25% دولار فى اليوم، بينما بلغت نسبة العاطلين عن العمل 25%، كما أن مصر احتلت ترتيبا متأخرا فى هذا التقرير (113 من بين 187 دولة)، وواضح أن هذا التقرير ـ رغم هذه النتائج المأساويةـ لم يصل بعد إلى مثل هذه الأسر، التى تعيش تحت أدنى هذه التصنيفات، وهى أسر لا تعيش فى الصومال، ولكنها فى وطننا مصر.
رسائل تذكرهم بأن هناك عشرات الحقوق الضائعة فى مصر.. الحق فى الغذاء.. الحق فى الصحة والعلاج.. الحق فى التعليم.. الحق فى العيش الكريم.. وهى كلها حقوق أولى أن تناقش ويتم بحثها قبل الحق فى البكينى والحق فى الخمور والحق فى حرية الإساءة والتجريح، عفواً حرية الرأى والتعبير.