الحملة التى شنتها قوات الشرطة والجيش بصحبة النيابة العامة على 17 من مراكز المجتمع المدنى الحقوقية وأدت إلى إغلاق مقارها بالشمع الأحمر بعد الاستيلاء على أوراق ومستندات وأسطوانات مدمجة وأجهزة حاسب آلى، وشملت مراكز مصرية وأخرى فروع لمنظمات حقوقية أجنبية تثير عددا من القضايا المهمة.
أولها الأسباب الحقيقية لهذه الحملة، والمعلن من جانب السلطات المصرية أن هذه المراكز غير مصرح لها بالعمل قانونا، فالمعهد الديمقراطى الأمريكى والمعهد الجمهورى ومنظمة فريدم هاوس الأمريكية- وهى فروع لمنظمات أمريكية- لم تحصل على تصريح من وزارة الخارجية المصرية، والمنظمات المصرية لم تحصل على ترخيص من وزارة التضامن الاجتماعى، كذلك فقط تلقت هذه المراكز جمعيها تمويلا أجنبياً ولم تخطر به الجهات الرسمية فى مصر، واستخدمت هذه الأموال «لخدمة أهداف أجنبية وزعزعة الأمن والاستقرار فى البلاد»!.
وهنا يثور التساؤل لماذا صمتت السلطات المصرية على عدم قانونية وجود هذه المراكز - الأجنبية والمصرية - لسنوات طويلة، وتعاملت معها رسميا فى مناسبات عدة منها السماح لها بمراقبة الانتخابات العامة بما فيها انتخابات مجلس الشعب الحالية بمراحلها الثلاث، ولم تعترض على التمويلات المالية لهذه المراكز التى تمت جميعها بالطريق القانونى عبر البنوك العاملة فى مصر، وتم النشر عنها فى موازنات هذه المراكز وتقارير المحاسبين والمراجعين القانونيين الذين يعتمدون هذه الموازنات، وهذا الصمت من جانب الإدارة المصرية لسنوات وسنوات، ثم القيام بهذه الحملة ذات الطابع البوليسى- أيا كان الشكل القانونى لها- يجعل التساؤل عن أسباب هذه الحملة مطروحاً بقوة.
وتقدم منظمات المجتمع المدنى الحقوقية وممارستها خلال السنوات الماضية منذ تأسيس المنظمة المصرية لحقوق الإنسان، خاصة قبيل ثورة 25 يناير وبعدها إجابة تبدو منطقية.
لقد لعبت هذه المنظمات الحقوقية جميعا وبدرجات متفاوتة دورا بالغ الأهمية فى نشر ثقافة حقوق الإنسان فى مصر، وفى كشف انتهاكات حقوق الإنسان التى تمارسها السلطات المصرية أمام الرأى العام المصرى ولدى المنظمات الحقوقية الدولية، خاصة «لجنة حقوق الإنسان» التابعة للأمم المتحدة.
القضية الثانية التى كشفت عنها هذه الحملة هى القانون الشاذ الذى يحكم قيام ونشاط هذه المنظمات فالأصل - طبقا للقانون المدنى الذى وضعه عبدالرازق السنهورى - قبل الثورة، إن تشكيل الجمعيات حق أصيل للمواطنين وتقوم الجمعية بمجرد اتفاق المواطنين على تشكيلها وإخطار الجهة المعنية.
وهو الأمر الذى يتفق مع الإعلان العالمى لحقوق الإنسان والمعهد الدولى للحقوق المدنية والسياسية التى وضعت، والمعهد الدولى للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، ولكن صدر عام 1964 القانون الذى يحمل رقم 32 والذى عطل مواد فى القانون المدنى وأخضع نشوء الجمعيات ونشاطها لهيمنة السلطة التنفيذية والأمن!، وخاضت الحركة الديمقراطية والأحزاب ومنظمات المجتمع المدنى الحديثة، معركة لإلغاء هذا القانون وتوصلت إلى اتفاق على مشروع قانون جديد أقل سوءا من قانون 1964 مع وزير الشؤون الاجتماعية فى ذلك الوقت «ميرفت التلاوى» ولكن الجميع - بمن فيهم الوزيرة - فوجئت بمشروع قانون آخر محال لمجلس الشعب من مجلس الوزراء برئاسة د. كمال الجنزورى تم التراجع فيه عن أغلب النقاط الإيجابية وصدر برقم 153 لسنة 1999، وحل محله بعد ذلك القانون 84 لسنة 2002 الحالى والذى يحمل كل سوءات القانون السابق.
القضية الثالثة تتعلق بطبيعة هذه الحملة ومدى قانونيتها، والواضح أن القرار صادر عن السلطة التنفيذية وتم إخراجه بغطاء قضائى أو قانونى، فبعد احتجاج الإدارة الأمريكية واتصال وزير الدفاع الأمريكى برئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة ولقاء السفيرة الأمريكية بوزير العدل المصرى، ثم تسليم مقار المنظمات الأمريكية الثلاث وجميع المستندات والأجهزة المصادرة لأصحابها، فى حين لم يطبق نفس الإجراء من المنظمات الوطنية.
وفى ضوء هذه الحقائق فمن حق - بل واجب - منظمات حقوق الإنسان جمعيها اللجوء إلى القضاء لإبطال كل ما تم، ورفع الأمر للمفوضية السامية لحقوق الإنسان من جنيف، خاصة فى ظل التأييد الذى تلقته من منظمة العفو الدولية «لندن»، والشبكة الأورومتوسطية لحقوق الإنسان «بروكسل» والفيدرالية لحقوق الإنسان «باريس» وهيومان رايتس ووتش «الولايات المتحدة».