الهوية هى السمات المميزة لأمة ما أو مجتمع ما، تتكون من الموروث الثقافى والتاريخى لكل أمة، فتشمل المعتقد واللغة والتاريخ والقيم والأعراف والرموز التى برزت وأثرت فى تلك الأمة، ثوابت راسخة لا يمكن زعزعتها لا بالغزو العسكرى ولا بالغزو الثقافى الحديث الذى تهب رياحه الغربية منذ عقود.
عولمة تفرض على الشعوب والأمم لتساير الحداثة الغربية تبلورت تلك العولمة نتيجة تراكم كم هائل من تجارب الغزو العسكرى (آخره بأفغانستان والعراق) بحجج تحرير الشعوب وفرض الديمقراطية..إلخ، وغزو سياسى يتمثل بالتدخل فى شئون الغير والتحيز ضده بقرارات حق النقض (الفيتو) وغيرها من أمور فرض الوصاية عليه.. إلخ، وغزو اقتصادى يتم باتفاقيات مجحفة وإغراق الأسواق أمام سلع أصل مادتها الخام من بلاد تلك الأسواق.. إلخ، وغزو اجتماعى يتمثل فى أطعمة الوجبات السريعة من (البرجر والهوت دوج) والخروج عن الأطر العائلية فى إقامة علاقات غير شرعية بعيدا عن أطر الزواج وتكوين الأسر.. إلخ، وغزو ثقافى يغير من طريقة الملبس والاستماع والمشاهدة للمواد الثقافية وخصوصا فى الأجيال الجديدة (فالسوبر مان) هو رجل أبيض غربى وموسيقى الراب هى اختراع غربى أيضا وغازى العالم بأمر إلهى هو رئيس أمريكي، ونشر العنف والإباحية وزواج المثليين وظهور الحركات والجماعات كالماسونية وعبدة الشياطين.. إلخ، كلها افتكاسات ظهرت بصورة الحداثة والمواطنة العالمية أطلق عليها حديثا لفظ (العولمة) بعد أن ذاق أصحابها ويلات عصور الظلام وفرض الوصاية الدينية عليهم قرروا بعدها الثورة على تلك الأوضاع وتنحيتها جانبا ليعيشوا حياة فصل الدين عن الدولة.
قد يتأثر بعض المفتونين بهذه الثقافة الحديثة التى تنحى الهوية جانبا، وتصبغ على أصحابها الحداثة الغربية التى تفصل بين معتقد الفرد ونمط حياته، أو بين دينه وعلمه، أو التى تفصل بين النص والعقل وتفرض على الفرد طبيعة عالمية جديدة تجرده من هويته.
ويأتى إفراز هؤلاء المفتونين بهذا الفكر بإحدى طريقتين، أولهما: انبهارهم بسراب مادياته الخادع بينما يظل خواء بنانه وخراب روحانياته بعيدا عن بصائرهم، فضلا عن بصيرتهم نتيجة تعايشهم بين أصحاب هذه الثقافة الحديثة لفترة ما، يعودون بعدها لمجتمعاتهم لنشر هذه الثقافة التى غرست فيهم وأثرت بهم، وثانيهما: أن يتم ذلك عن طريق تجنيد بعض الذين باعوا هويتهم مقابل عرض الدنيا الزائل أو بحفنة من عملات العولمة الصعبة التى تتيح لهم معايشة ألوان الحداثة التى تكيفوا معها.
لقد ثار الشعب المصرى وغيره من شعوب الربيع العربى ضد الظلم والاستبداد والجهل والاستعباد، ثار ضد الفساد والتسفيه، وليس ضد هويته وقيمه وتاريخه أو لغته أو معتقده، لذلك فقد وجه رسالة صريحة لكل من يريد العبث بهويته ولكل من يريد أن يمزج الثورة ببعض ألوان هذه الأنماط المستغربة التى لا تتماشى مع هويته وفطرته.
لقد اختار الشعب هويته بعد الثورة وراهن عليها لأنها آخر ما يملك، فهى ملجأه الذى آوى إليه فى خضم عواصف وأعاصير الحداثة الغربية، وهى الحصن الأخير الذى لجأ إليه بعد أن طحنه حكامه الذين انصاعوا للإملاءات الامبريالية، وأطاعوا الهوى الغربى الذى سمم جسد الأمة ولا يزال، فانقلبت هذه الشعوب على كل تلك المظاهر التى حاولت أنظمتها البائدة ومن ورائها قوى الظلام الامبريالية غرسها فيها، فهل يقبلنا الغرب بهويتنا؟ بلغتنا؟ بمعتقدنا؟ بتاريخنا؟ لماذا لا يريد إلا الديمقراطية التى تتناسب مع أهدافه وسيطرته ونفوذه؟ لماذا لا يرضى عنا إلا إذا اتبعنا سبيله ونهجه؟.
إنها صحوة اليقين التى منحها الله لعباده الصابرين ليمكن لهم ويبدل ذلهم عزا وخوفهم أمنا، فهل يمنحنا بنو جلدتنا المشاركون فى صناعة الثورة والذين لم يحالفهم التوفيق فى تمثيل الأمة فرصة التجربة الديمقراطية الوليدة، ويحافظوا على الخيط الرفيع والشعرة القاطنة مابين الثورة البناءة والفوضى الخلاقة، نتمنى ذلك.
