لا أستبعد على الإطلاق وجود نوايا حسنة وأحلام مشروعة تنمو فى جنبات وزارة الثقافة، من أجل تطوير المحتوى الثقافى، وتقديم خدمة أفضل ترتقى بالمواطن ووعيه، لكنى أيضاً أؤمن بأن الطريق إلى الجحيم مفروش بالنوايا الحسنة، وقد يترتب على التشتت وغياب الرؤية وإطلاق النوايا الحسنة دون تحصينها بإطار من المؤسسية آثار أكثر قسوة من الفساد والإفساد الممنهج، وإذا كنا نريد حقاً أن نعيد ترتيب البيت الثقافى، فعلينا أن نبدأ بمراجعة كل سياسات العهد البائد من أجل القضاء على الهالك المادى والمعنوى، وتوجيه الرسالة الثقافية بالشكل الأمثل إلى مستحقيها الحقيقيين.
سأتناول هنا جانباً واحداً فى أنشطة الوزارة، وهو جانب النشر الذى يضيع فيه من الجهد والمال الكثير، وفى الحقيقة فإن سبب تناولى لهذا الموضوع هو أن الهيئة العامة لقصور الثقافة قررت إعادة هيكلة خطتها للنشر باستحداث سلاسل جديدة وتكهين سلاسل قديمة، وأول خطوة اتخذتها فى هذا السبيل هى نسف قوائم الانتظار فى سلسلتى إبداعات وأصوات، والتى قدرتها الهيئة بأنها تزيد على 170 عملاً، وأرى أن هذه الخطوة، وإن كانت إيجابية، لكن لها من الأضرار الكثير، خاصة أن هذه الكتب ذاتها سيتم تقديمها مرة أخرى إلى الهيئة للنشر فى السلاسل الجديدة، كما أن مراجعتها مرة أخرى، بعد أن أجيزت، ستكلف خزينة الهيئة الكثير من الأموال، وإذا أضفنا إلى هذا المبلغ قيمة الفحص الأولى لهذه الكتب "المجازة"، فسنتأكد من أن عشرات وربما مئات الآلاف من الجنيهات سيتم إهدارها، رغم أن السيد رئيس الهيئة العامة لقصور الثقافة الحالى هو الذى أشرف على "إجازة" هذه الكتب، وقت أن كان رئيساً للإدارة المركزية للنشر وأمينه العام.
ولكى لا يفسر كل واحد هذا الكلام على هواه، أود هنا أن أؤكد أننى لا أقصد من مناقشة هذه القضية إثارة مشكلة أو اتهام أشخاص، لكن بما أننا فتحنا ملف مراجعة سياسة النشر فى الوزارة فلابد هنا أن ننظر إلى الأمور نظرة كلية، تشمل كل قطاعات الوزارة وهيئاتها، فقصور الثقافة لا تواجه هذه المشكلة وحدها، وتشترك معها فى المعاناة هيئة الكتاب، والأخطر من ذلك أن جهد الوزارة فى نشر الكتب والأبحاث يضيع معظمه فى "المخازن" ولا ينجو من بئر النسيان إلا قلة قليلة من إصداراتها، ولا يحظى أى كتاب من كتب الوزارة بحقه فى الترويج، من كثرة الإصدارات من ناحية وضعف مستواها الفنى من ناحية أخرى، اللهم إلا إذا كان مؤلف الكتاب من أهل الحظوة عند الصحفيين والإعلاميين.
كتب تنشرها هيئة الكتاب، غاية فى الأهمية ولا تجد لها صدى فى الشارع، ولا فى المكتبات، ولا فى الصحف، وكذلك الأمر يحدث فى دار الكتب، ويتكرر الموضوع فى هيئة قصور الثقافة والمركز القومى للترجمة والإصدارات الخاصة لأكاديمية الفنون، وقطاع الفنون التشكيلية، ولا تكتفى قطاعات الوزارة وهيئاتها بإصدار الكتب فحسب، وإنما تصدر المجلات المتنوعة والجرائد، كل هذا التفرع فى الإصدارات لا يؤدى إلى إثراء الحياة الثقافية بشكل حقيقى، وإنما يؤدى إلى تراكم المنشور دون تحقيق استفادة حقيقة منه، كما ينعكس على مستوى الكتاب الطباعى والفنى والإخراجى، ويؤدى أيضا إلى تدهور المستوى الفنى للأعمال المنشورة، بالشكل الذى يجعل إنتاج الكتاب عملا عبثيا لا يحقق إفادة حقيقية لأى طرف من أطراف النشر، سواء الكاتب أو الناشر أو القارئ، كما يكلف هذا التشتت ميزانية الدولة عدة ملايين سنويا، أحق بها أطفالنا فى النجوع والقرى الذين يحرمون من أية إضافات ثقافية أو فنية.
لا يقلل أحد من قيمة الكتاب وأهميته، ولا أريد أن يعتبر أحد أننى حينما أفتح هذا الموضوع للمناقشة أبغى تقليص ميزانية الوزارة المخصصة للنشر، لكن كل ما أريده هو ترشيد هذا العبث وتوظيفه بالشكل السليم، وأرى أنه من الواجب أن تقصر الوزارة عملية النشر على مؤسسة واحدة من مؤسساتها تقوم هذه المؤسسة، أياً كان اسمها، بتحديد السلاسل المختارة وفروع الكتب المقدمة إليها عن طريق لجنة عليا للنشر، ترسم السياسات والخطط المراد تقديمها للمجتمع، وتضمن ألا يتعارض أو يتشابه ما تنشره المؤسسة الثقافية الرسمية، بدلا من تبديد ميزانية الوزارة فى نشر كتب غير ذات قيمة من أجل ضمان عمل سلسلة "ما" أو إهلاك الميزانية على العديد من لجان القراءة التى تقرأ عملاً واحداً عشرات المرات، فيتكلف الكتاب، الذى ربما يكون رديئا، أضعاف ثمن طباعته فى لجان بعدها لجان وقبلها لجان.